تقاعد مبكر للمثقف العربي/ حكيم عنكر
ما هي قضية الكاتب العربي؟ وفي سؤال أعم: ما هي قضية المثقف العربي، الذي يفترض فيه أن ينتج القيم الفكرية والأدبية، وقيم الجمال والحرية؟ وعن أي شيء يدافع؟ وفي أي متراس يقف؟ وما هو مقدار البذل والعطاء الذي يقدمه قرباناً من أجل الانتماء إلى هذه الجغرافيا الخطرة، التي تسمى “عالماً عربيا”، بمياهه المتلاطمة ورماله المتحركة؟
حين يوجد المثقف العربي في المؤسسة، يلبس خطابها ويجلس إلى “كانونها” متدفئاً، لا يهمه تصحر الفكر والضمير والتباس الأسئلة، التي تحيق بالآخرين، فلقد وصل، مثل أي مسؤول عربي، على أكتاف الجماهير. والآن فلينكل بهم، إن لم يدرك ذلك مادياً، فله خذلانهم معنوياً، بقلب المعطف، والاشتغال سخرة مبينة بين أيدي الشيطان، ولا شياطين أفتك من أبالسة السلطة.
تاريخ المثقفين العرب منذ الاستقلالات الوطنية مليء بهذه الطينة التي تحولت، في أول اختبار لها في مطبخ السلطة، إلى فحمة كامدة. وكان المواطن العربي يمنّي النفس بمقولة “ما تبقى يكمله المثقفون”، فإذا يد السلطان تحتطب في نهار من يمين ومن يسار ومن وسط.
والواقع أنه جرت حملة منسقة للتشويه والتزييف، وجدت المنبت الشيطاني الملائم لها في الجامعة، وفي المحفل الثقافي، وفي الكيانات، التي ولدت بوعود كبيرة في تلك السنوات من أعوام الاستقلال الأولى، وحين كان الرهان قائماً على الدولة الوطنية، فكان أن جرى سريعاً الارتداد على الحلم.
ما هي النتيجة اليوم؟ الجواب، بكل تأكيد، في الحاضر الممزق، وفي الأحلام المطعونة، وفي المفقود من الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. والجواب في حال الشعوب العربية الممزقة الهاربة براً وبحراً.
في مقابلة مع قناة فرنسية، يتحدث الروائي الإنجليزي، كين فوليت، عن تجربته وتحولاتها، وعن فهمه دوره كاتباً في عالم اليوم، وهو بالمناسبة الكاتب الأكثر مقروئية في العالم، حيث بيعت من رواياته أكثر من 130مليون نسخة، وترجم إلى أغلب لغات العالم، وحولت أعمال عديدة له إلى السينما، ومن أشهر نصوصه “العين الكبيرة”، وقد فاز به بجائزة إدغار آلان بو، وأطلقه في عالم الشهرة.
يؤكد هذا الكاتب، في لقائه مع القناة الفرنسية، أن الكتابة التزام، وبما هي كذلك، لا يعرف صاحبها التقاعد. وحين سأله الصحافي: أنت، الآن، كاتب عالمي ومعروف، وقد تقدمت في السن، وجمعت ما يكفي من النقود، ألا تفكر في التقاعد؟
كانت إجابة كين فوليت لماحة وساخرة، رد بهدوء على سؤال استفزازي مثل هذا بالقول: “أتعرف، أنه إذا ذهبت إلى جهنم فلن يكون بإمكاني ممارسة الكتابة، ولا لعب الغولف فوق العشب الأخضر”.
هذا الجواب يختصر معنى إيمان الكاتب الحقيقي بعمله، والتزامه مع ذاته ومع قرائه، فالكتابة لا تعرف التقاعد، وهي ليست تزجية لفراغ الوقت، ولا كسباً للرزق، أو تهافتاً على المال ببيع المبدأ، أو خيانة الذات في أقرب حانوت سياسي أو جهة تدفع أكثر. ولكنْ، هناك حدود دنيا من المصداقية، تجري المحافظة عليها، ومستوى معين من المعقول يصان، حتى لا يتحول هذا النضال اليومي من أجل عالم أفضل إلى عدو جنوني في مضمار العدم.
الكاتب العربي هو ابن عصره. نجيب محفوظ كان ابن زمنه، وعبّر عن ذلك الزمن في أعماله، ورصد تحولاته ومسوخه، لأن الرواية هي ملحمة العصر الحديث، في هذا المجتمع الجامع والتعبير عن تحولات الحاضر. ومن لا يرى عصره، لا يستطيع أن يدشن خطوة في اتجاه الأدب الكبير، ويكون مصيره: إحالة مبكرة على التقاعد من دون مجد يذكر.
العربي الجديد