تقسيم التقسيم/ أمجد ناصر
كثيرة هي الكتابات الغربية التي تتحدّث، اليوم، عمَّا ستسفر عنه حروب المشرق العربي الدائرة رحاها على أرض سايكس بيكو، من تقسيم جديد للمنطقة. معاهد أبحاث وصحف ومجلات رصينة، ليبرالية ويمينية على السواء، تتناول المآلات التي تبدو في نظرها “حتمية” للحروب الدائرة اليوم في سورية والعراق. بدأ موضوع التقسيم في العراق باكراً، وكان نتيجة حرب أيضاً. فقد أسفرت قرارات الحظر الجوي، في أعقاب الحرب الأميركية الأولى على العراق (1991)، عن وجود منطقتين، كادتا تخرجان من الجغرافيا العراقية التي كان يحكمها نظام صدام حسين: الجنوب والشمال. سُمح لصدّام بقمع الجنوب وإعادته إلى كيان الدولة العراقية، فيما لم يُسمح له بالتحرك متراً في مناطق الشمال الكردي (اللهم إلا لقمع تحرك جلال طالباني، حليف الإيرانيين، لمصلحة البرزاني حليف الغرب). أي حديث، الآن، عن وحدة للتراب العراقي تشمل الشمال الخاضع للسيطرة الكردية هو هراء. العكس صحيح، فقد تكون أولى ثمرات ما يجري في العراق قيام دولة كردية ستحظى، بلا إبطاء، باعتراف أوروبي وأميركي.
سايكس بيكو ليستا كلمتين عابرتين في الحياة العربية. إنهما الأساس القانوني الذي قامت عليه “الدولة الوطنية” المشرقية، وما أنتجته من هوياتٍ تبدو اليوم في مهبِّ الريح، لصالح تفتيتٍ أكثر وهويات أصغر. لكن الاتفاقية التي مهرت باسمي المفاوضيْن، البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، بمعرفة القيصرية الروسية عام 1916، وظلت سريِّة إلى أن قامت الثورة البلشفية الروسية، وفضحتها بعد ذلك بعام، لم تكن سوى بداية “الخيانات” الغربية لوعود قطعت للعرب لم تتحقق قط.
هناك اتجاه “بحثي” و”صحافي” أميركي يقول إن الدول الأوروبية ارتكبت خطأ استراتيجياً بـ”تنازلها” لكمال أتاتورك في اتفاقية لوزان (1922) عمّا أقرَّته اتفاقية سيفر، قبل ذلك بعامين، بموافقة ممثل السلطان العثماني، ففي تلك الاتفاقية التي وقعت في مصنع للخزف في هذه الضاحية الباريسية، كانت هناك نواة دولة كردية. كان هناك “تجانس عرقي” أكثر لصالح غير المتكلمين بالتركية التي اعتبرت معياراً، في حينها، للقومية. هذا يعني شيئاً واحداً واضحاً: الإقرار بحق الأكراد في كيان خاص بهم. ولكن أين؟ في العراق هم فعلياً دولة، لكنهم ليسوا كذلك على المستوى الرسمي. فهل تنتهي الحرب بقيام دولةٍ كردية تتجاوز، مع تداخل الحدود والمعارك التي تمحي الحدود الآن، العراق، لتصل إلى تركيا وسورية، وربما إيران لاحقاً؟ لا أحد يعرف. المؤكد أن القوى السياسية الكردية صارت أفضل حليف غربي في المنطقة. الحاجة بين الغرب والأكراد متبادلة. الغرب يريد حليفاً، غير قابل للاختراق الإسلاموي في المنطقة، والأكراد يريدون قوة دولية تأخذ بيدهم إلى الاستقلال.
قضية الأكراد مفهومة، مزمنة، ومؤسفة في خيانة القوى السياسية العالمية والإقليمية لهم. لكن، كيف نفهم الحديث الغربي عن التقسيم في إطار “المكوِّن” العربي نفسه؟ إما أن الغرب الذي يدّعي فهم المنطقة لا يفهمها، أو أنه يلعب، كالعادة، على أوتار قد تجد رنيناً لدى بعضهم.. أو ربما الكثرة في هذه الآونة المريضة. فنحن لا نتحدث عن تقسيم “عرقي”، بل طائفي، وربما مناطقي في داخل “الإثنية” الواحدة التي تتفاخر، وتتنابز، في انتسابها إلى عدنان وقحطان. لاحظوا معي الخارطة السورية التي نشرت، قبل أيام، مع مقال لكاتب بريطاني يتحدث فيه عن صراعات الشرق الأوسط المحتمل أن تؤدي إلى التقسيم. الخارطة من وضع معهد واشنطن (!). ما هي مفاتيح تلك الخارطة؟ إنها التالية: سني، تركماني، كردي، بدوي، مسيحي، شيعي، إسماعيلي، علوي، دروز.
تخلط هذه الخارطة البائسة بين الإثنية الحقيقية (أكراد، تركمان) والطائفية: سني، شيعي، علوي إلخ.. وحسب علمي، لم يصنف العلويون والدروز والإسماعيليون أنفسهم في خانة إثنية خاصة بهم. ولا يشكل السنة إثنية قائمة بذاتها، بيد أن الأغرب، والأكثر مدعاة للسخرية، هو اللون الخاص بالبدو على الخارطة. في خارطةٍ كهذه، إن وجدت سبيلاً للتقسيم، سنكون أمام قومية بدوية، وقومية سنية، وقومية شيعية، وقومية علوية إلخ..
أهذا غباء في معرفة المنطقة فعلاً، أم خبثٌ مبين؟ أرجِّح الاثنين معاً.
العربي الجديد