صفحات الرأي

تقييد الوعي بالنص/ حسام عيتاني

 

 

الاهتمام الذي تحظى به فترة الاسلام المبكر، من المتخصصين في مختلف العلوم الانسانية والجمهور العام، يتجاوز بأشواط الحقبات اللاحقة من التاريخ العربي – الاسلامي. فمقابل كل كتاب عن العصر المملوكي، على سبيل المثال، يمكن العثور على عشرات الكتب عن عصر النبوة والخلفاء الراشدين والفتنة الكبرى وصولاً الى قيام الدولة العباسية.

وإذا وضعنا جانباً ما تعنيه الفترة المبكرة من الاسلام على المستوى الديني المحض، تبقى تلك الاعوام التي لا تزيد عن المئتين، مركز اهتمام المؤرخين والباحثين الانتروبولوجيين وعلماء السياسة وغيرهم كثر. لا ينحصر «سحر» القرنين الهجريين الأولين في حضور الشخصيات الكبرى التي شكلت الوعي الاسلامي على امتداد الزمن وبالنهل من سلوكها ومواقفها الاخلاقية، بل يتجاوزه الى محاولة استعادته حرفياً وتفصيلياً استعادة تنبئ بمشكلات الحاضر واستعصاء علاجها أكثر ما تشي بعبقرية السلف.

الاسلام السياسي المعاصر، بصيَغِه الجهادية واللاعنفية سواء بسواء، يُنشئ أكثر تصوراته ومقارباته على مجريات السياسة في تلك الحقبة. مسائل مثل الخلافة والإمامة والحق في الخروج على السلاطين الفاسقين والعلاقة بين السلطان والخليفة و»أئمة الهدى» وصراعهم مع «أئمة الضلال»، لا يضيف تناولها اليوم، في واقع الامر، شيئاً الى ما قاله في شأنها فقهاء القرون الهجرية الاولى. مع ذلك، تجد من يرى في اجتماع سقيفة بني ساعدة اللحظة التأسيسية لكل التاريخ السياسي العربي – الاسلامي.

ويتجاهل هؤلاء لحظات لا تقل أهمية وتحمل معاني ودلالات عميقة في مسار الحضارة في هذه المنطقة من العالم وخصوصاً في موضوع السلطة والسياسة وتداولها ومعناها وأداور الفئات الاجتماعية المختلفة. وفي غالب الاحيان، يلتقي الابتسار الذي يعممه الاسلام السياسي الراهن على معطيات الماضي، بالتصور «الاستشراقي»، بمعنى تجميد وعي المجتمعات العربية وواقعها، وإخراجها من ضرورات التطور والتغير بفعل دينامياتها الداخلية او الاحتكاك مع العالم من حولها وردها الى سوية جامدة، قبلية في الاجتماع ودينية في الوعي، لا تتغير ولا تتبدل.

نطرح مثلين على ما ذكرنا: الاول ثقافي- فقهي، فأمام تدهور وضع الخلافة وامحاء أثرها وما يفترض ان تقوم به من دور توحيدي في الامة، يقترح الجويني في «غياث الامم» على الوزير السلجوقي القوي نظام الملك (من دون ان يسميه) تنحية السلطان والخليفة العباسي الضعيفين واعلان نفسه خليفة وإماماً، متجاهلاً التقليد الذي أرساه فقهاء سابقون عن تأكيد النسب القرشي للخليفة. معلوم ان تلميذ الجويني، الغزالي، تراجع عن هذه الفكرة في «الاقتصاد في الاعتقاد». لكن خروجها من التناول الفقهي لم يلبث ان تحول تكريساً عملياً لها. وهنا نصل الى المثل الثاني: عندما قضى السلطان سليم الاول على مقاومة طومان باي في القاهرة (وأعدمه عند باب زويلة)، اصطحب معه الى اسطنبول الخليفة العباسي المتوكل على الله الثالث، ويحكى أن السلطان ارغم الخليفة على ان يوصي له بالخلافة بعد وفاته. وفي العام 1534 توفي المتوكل الثالث وأصبح سليم الاول خليفة على المسلمين وهو لا يمت الى النسب القرشي بِصِلة.

المهم أن سليم الاول، العسكري الجلف، لم يبال بأراء قدامى الفقهاء ورأى ان مصلحته ومصلحة السلطنة تقتضي جمع اللقبين، الديني والدنيوي. ولم تصدر احتجاجات تذكر على هذا السلوك الذي ظل سارياً الى حين إلغاء الخلافة في 1924.

واليوم، نعيش فراغاً سواء على صعيد الجرأة التشريعية التي تحلى بها الجويني الذي قدّم المصلحة العامة على التقليد، أو على صعيد الجسارة العملانية التي تضع الواقع فوق النص، خصوصاً اذا كان من صنع البشر وأهوائهم.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى