تلك الجدران التي فقدتها/ رشا عمران
ليس سهلاً علي أن أعيد سرديات ما اختبرته من الحب طوال حياتي، وأنا أتجاوز الخمسين بعام وأكثر، ليس الأمر تماماً متعلقا بتقدمي بالعمر، ثمّة كل تلك الأبواب التي انفتحت في السنوات الخمس الماضية، أو الأبواب التي اختفت، واختفت معها كل الجدران التي كنت أستند إليها، حين أصاب بالدوار، ثم أغلق الأبواب، كي لا يرى فقدان توازني أحد. كان لدي بيت، ولدي مدينة، ولدي وطن، كان لدي تفاصيل يوميات تربط البيت والمدينة والوطن، عالم كامل بكل ما فيه، ذاكرة تُراكم الأحداث وتنتخبها، ذاكرة يتشبث فيها الحلم والأمل والانتماء والخيارات والصداقات والحب والمتع الصغيرة، وتلفظ اليأس والخذلان والخيبة والحزن والخيانات، وتخفيها حيث كنت لا أدري. ذاكرة لم تتسع يوماً للندم، إذ ثمّة في اليوم الجديد ما يحتل فراغاتها دائماً، ثمّة في اليوم الجديد ما كنت أمسكه بيديّ صباحاً، من دون أن أهتم باحتمال فقدانه في المساء، لم أكن أفكر أصلا أن المساء قادم. لهذا، ربما، حين كانت تتسرب الأشياء من بين أصابعي، كنت أبدأ بفقدان التوازن، غير أنه كان ثمة بيت بجدران تسندني، جدران كانت تحمل وجوه الأصدقاء ومحبتهم وقلوبهم التي تمسح الحزن عني، جدران تخصني، وتحمي عالمي الذي اخترته بنفسي، عالمي الصاخب والسريع والمجنون والمؤلم والممتع والنافر والمتمرد والشغوف واللامبالي واليائس والحزين والصعب والغني، عالم من العلاقات السهلة، والعلاقات المعقدة، والعلاقات المريضة، والعلاقات المعافاة.
كنت أعصر هذا العالم، وأشرب عصيره حتى آخر نقطة فيه، ثم أعيد بناءه وأعيشه، كما لو كنت خُلِقت للتو، كما لو كنت أعيش للمرة الأولى في حياتي. في الحب، كنت هكذا أيضا، سريعة ومتهورة، أُشبه الأرنب في حكاية السلحفاة والأرنب، كنت بمثل خفته وتهوره، أريد أن أقطع المسافة المحددة بأسرع وقت ممكن، لم أكن معنيةً برؤية جانبي الطريق، ولا بالانتباه إلى الحصى التي قد تعرقل تقدمي السريع. كنت شغوفة بالوصول إلى النهاية، النهاية التي غالباً ما تكون حافة الهاوية، حيث البؤس والوحشة والألم، غير أنني لم أكن أهتم، إذ ثمّة تلك الجدران التي تلتف حولي، وتمنعني من السقوط في الهاوية، لأعاود الكرّة من جديد. هل أسمي هذا حظاً جيداً، أم قوة خفية داخلية قادرة على الترميم للبدء من جديد؟
أفكر، الآن، بهذا كله، وأنا أراقب نفسي، كيف أمشي نحو الحب حين أصادفه، كيف أصبحت بطيئة كالسلحفاة. كيف أبتعد بالثقل الذي أحمله فوق جسدي عن كل حصاةٍ أصادفها، مهما كانت صغيرة. كيف أحسب الزمن الذي يفصلني عن النهاية. كيف أنتبه إلى التفاصيل التي ترافق طريقي، كيف أراقب عزلتي، على الرغم من جمال الطريق وبهجته. كيف أحاول السيطرة على ما أمسكه بيدي خشية تسربه وفقدانه. كيف أصبحت أرتعب من فكرة الفقد. كيف أصبحت أخاف، أنا المقتحمة الجريئة التي لم يكن يخيفها شيء! ليس السبب هو التقدم بالعمر، لا تخيفني سنواتي التي تجاوزت الخمسين، إذ ما زالت لدي القدرة نفسها على فعل كل ما كنت أفعله سابقاً، وربما بشغفٍ أكثر، شغف الذي يعرف أن ما تبقى هو القليل، الفكرة هي بالسنوات الخمس الماضية التي فتحت كل الأبواب، ثم أخفتها وأخفت معها الجدران التي كانت تحميني، وتركتني وحيدة في العراء. لا بيت، لا مدينة، لا وطن، فقط ذاكرة ممتلئة بالموت، وبكل جذوره الشوكية الممتدة في مسام وخلايا جسدي ودمي، حيث لا مساحة متاحة لأرحّل إليها ما يثقل ذاكرتي، ولا مكان في وعيي لبناء جدران جديدة ألتجئ إليها وتضمني، ولا أبواب أُغلقها إذا ما فقدت توازني، كي أرمم نفسي، وأبدأ من جديد. ليس سهلاً علي الآن أن أستعيد سرديات الحب التي ميزت حياتي، غير أنني، في الوقت نفسه، لن أستطيع الاستمرار في العيش من دون أن أحب، من دون أن أتحسس طراوة الحب على جلدي، من دون أن أشعر بمائه يختلط في دمي، من دون أن ينتبه أحد إلى لمعانه في عينيّ، من دون رعشة القلق والألق من التفكير به، سأسير إليه، الآن، ربما ببطء السلحفاة، لكنني أعي تماماً أنه طريقتي الوحيدة للنجاة من ذاكرة الموت التي تحتلني.
العربي الجديد