صفحات الثقافة

تلك الرسائل/ نجوى بركات

 

 

هل ثمّة من يكتب الرسائل بعد؟ أعني تلك التي تُكتب باليد، بقلم حبر أو رصاص، على ورقة ملوّنة أو بيضاء، يتم نزعها من دفتر خاص، أو من بين حفنة أوراق، فوق طاولة يسند المرسِل ذراعه إليها، ثم يتأمّل في المشهد قليلا، في النافذة التي أمامه، أو في الفراغ، متخيّلا الشخصَ المرسَل إليه، مستحضرًا مشاعرَه حياله، مواقفـَه منه، مطلبـَه، سؤالـَه، مُراجعًا حسابه معه أو كل ما يربطه به، قبل أن يميل برأسه قليلا، يأخذ نفسا عميقا، ثم يطلق يدَه لتجري ما استطاعت، فوق ورقة ستفقد بياضها تباعا، كلما تقدّمت فوقها جحافلُ الكلمات.

وإذ يخطئ، يُسيئه أن يفعل، كأنه بخطئه ذاك يشي بضعفٍ، بِحَيْـرة، أو بارتباك مشاعر، فيمحو، وإن تعذّر المحو، مزّق الورقة، وأعاد لها عذريتها، ليبدأ من جديد. لكأنّ أصول كتابة الرسائل تقول بوجوب الإصابة منذ الضربة الأولى، إذ لا مكان لغلط، لتردّد، لارتباك. تماما كمن يرسل سهما، ينبغي أن يبدو المرسِلُ أمام المرسَل إليه واثقاً، متفكّراً ومصمّما على البوح، أو التصريح، أو الإبلاغ، بمضمون رسالته.

ثم، بعد مقطعين أو ثلاثة، وجُملٍ تُعدَّل أو تُشطب، لا بد من أخذ القرار باللجوء إلى مسوّدة، ومن بعدها الوقوف قليلا، للتريّض والتنفيس، وقد قرع المرسِل لنفسه جرسَ الفرصة، مرجئا امتحانَ “النسخة النهائية” إلى ما بعد اكتمال المحتوى، لنسخه نظيفاً، لا تشوبه شائبة. ثم، بعد زفرة الانفراج تلك، لا بدّ من إشعال سيجارة ومجّها بعمق، مرسلين دخانها دوائر إلى الفضاء، ولا بأس، أيضاً، بإعداد فنجان قهوة مرّ، لشحذ الهمّة، وإنعاش الأطراف الذابلة، وإيقاظ ما غفا أو سها من الكلمات.

والآن، وقد دُوّن المكان والتاريخ، وبعد التحية والسلام، يبدأ الكلام، ذاك الذي لا رجوع عنه، الذي سيبقى محفورًا لدهر على ورقةٍ، ستُضمّ بعناية إلى رزمة أوراق، ستُكسبها حياتُها المديدة صُفرةً وأخاديد. والآن، وقد جهزت الرسالة، فأي مظروف لها، أذاك الذي بلونٍ، أم المحايد، بنافذة صغيرة، أم مقفل مسدود؟ كمن يختار علبة بعينها، ليضع فيها قطعة مجوهرات، أو كأن رسائلنا قطع من القلب، نرسلها، في قوارب، إلى من تفصلنا عنهم مسافاتٌ من أمتار وأميال، أو من بُعادٍ وشوق وجفاء.

أمي الحبيبة، أخي الغالي، غاليتي، حبيبي، صديقي العزيز، فلانة، فلان… ودمتم لي، وحفظكم الله، وأشواق وقبلات… التوقيع.

ولا تكتمل الرسالة ما لم يوضع الاسم الكامل على المظروف، مرفقا بعنوان المرسَل إليه، وبالصورة التي تُقذف إلى أذهاننا مباشرة، حتى قبل أن نودع المظروف مكتب البريد، صورة متلقّي الرسالة وهو يتسلّمها من يد ساعي البريد، أو مشهد عينيه وهما تقعان عليها، فيما هو واقف يفرز بريده الخاص.

نعيد الصورة في رأسنا مرات ومرات، متلذّذين بأدنى التفاصيل. نرسم التعبير على الوجه دهشةً، أو دموعاً، أو ضحكة، أو ارتعاشة فؤاد، ثم ننتقل إلى اليد التي تفضّ المظروف بتأنّ، لاستخراج الرسالة كما تُستخرج قطعة ماس، فلربما حملت على حوافها رائحة، أو شعرة، أو إشارة، رمزا، لغزاً، لا يستقيم من دونها المضمون.

لكننا ما نلبث أن نعيد الشريط مسرعين إلى الوراء، متسائلين: أنضيف اسمنا وعنواننا على قفا المظروف، فنغتال المفاجأة، أم نغتال أدنى مجازفة باحتمال ضياع الرسالة وعدم بلوغها وجهتها، مع جهلنا التام لمصيرها ذاك؟ وحين نحسم الصراع مع أنفسنا، نلصق ذلك المربع الملوّن الذي نبلّه بريقنا ولهفتنا، في الزاوية حيث سيهوي ختمّ آخر يشرعن “فعلتنا” ويموقعها في الزمان والمكان.

مع الطابع البريدي، تكتسب رسالتنا بطاقة هوية، جواز سفر تبرزه، كي تباشر رحلتها إلى “الوالد” الآخر الذي سيكتمل به، مجيئُها إلى الوجود. ومعه يبدأ وقت ساديّ نحبّه، فاصل ما بين الإرسال والتلقّي، حيث نعوم في دفء دمائنا، ساهمين، مستسلمين…

كانت تلك الرسائل تحيا طويلا، كان لها عمر مديد. رسائل اليوم “تفقّس” من دون أهل، لكنها ما تلبث أن تحترق سريعا، كالنيازك، في سماء التواصل الافتراضي.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى