تناقض المشهد السوري ومآلاته المتعددة/ لؤي صافي
سوريا اليوم في حالة حرب مفتوحة على كل الاحتمالات، وهي تشكل بؤرة صراع تجتذب قوى طائفية تتهافت عليها من كل حدب وصوب أمام مرأى العالم ومسمعه، ودون وجود اهتمام واضح لإنهاء الصراع. الأمر الأكيد أن الشعب السوري الحر مصرٌّ على تحقيق أهداف ثورته في الحرية والكرامة والديمقراطية، وأن سوريا لن تعود مرة أخرى إلى النظام القديم، رغم عدم وضوح معالم النظام السياسي القادم أو المدى الزمني لامتداد الصراع العسكري.
الخيارات المتوفرة للمعارضة السورية محدودة؛ فالنظام مدعوم عسكريا وماليا دعما غير محدود من قبل إيران وروسيا. وهو يستعين بقرابة أربعين ألف مقاتل إيراني وعراقي ولبناني للحفاظ على سلطته. المعارضة في المقابل ليس لديها دعم خارجي كاف، وهي تعتمد على قدراتها الذاتية وما تغتنمه من ترسانة النظام.
لكن المعارضة لديها أوراق مهمة يمكن توظيفها إذا استطاعت أن تزيد من تلاحمها الداخلي وتعمل على مستوى أعلى من التنظيم والأداء. في مقدمة هذه الأوراق الصبر والمثابرة والثبات؛ فالنظام يفتقد كل مقومات الاستمرار كسلطة سياسية مستقلة، وهو اليوم مستمر بسبب الإرادة الإيرانية، وبالتالي يمثل وجوده هيمنة لدولة الولي الفقيه على سوريا، وهي الدولة التي تستثمر بشريا وماليا لإبقاء النظام في السلطة. لكن إيران ستكتشف قريبا أن رغبتها في الهيمنة والتوسع تتضاءل في حجمها أمام رغبة الشعب السوري في الحرية والاستقلال.
تعمل المعارضة السورية اليوم، في سياق صراع عنيف مع نظام الأسد وحليفه الاستراتيجي العراقي «داعش»، على تنظيم المناطق التي تسيطر عليها، وتعمل على إدارتها عبر الحكومة المؤقتة التي شكلتها قبل أشهر قليلة، كما تعمل على توفير حد أدنى من القدرة النارية لردع هجمات النظام الجوية والبرية بالطيران والأسلحة الثقيلية. ثمة جهود مستمرة في السعي إلى رفع أداء المعارضة التنظيمي.
الصراع السوري باصطفافاته وتداخلاته الراهنة يوظف من قبل قوى سياسية ملتزمة أولا وقبل كل شيء أمن إسرائيل وهيمنتها بغرض إنهاك منطقة المشرق العربي وإغراقها في حروب بينية لن تخرج منها إلا مدمرة مفلسة ما لم يبادر العقلاء إلى تغيير طبيعة الحراك. وبطبيعة الحال فإن الطمع الإيراني في توسيع دائرة نفوذ الدولة الشيعية الإيرانية، ورغبة روسيا في تحدي السياسات الغربية في الشرق الأوسط، يوفران الأجواء لإنجاح الخطة الماكرة، لكن الشعب السوري لن يرضى أن يكون بيدقا في لعبة النفوذ الإيرانية أو الروسية أو الغربية، وسيصر على الكفاح للوصول إلى حقه المشروع في العيش الكريم والخلاص من الطغيان والفساد.
نظام الأسد كاد ينهار في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، وهذا ما دفع الروس إلى الضغط عليه للذهاب إلى جنيف. ولكن الدعم المالي والبشري والعسكري الذي قدمته إيران منذ ذلك الحين رجح كفة النظام وزاد الضغط على الثوار. كما أن دخول المنظمة المتطرفة المسماة «دولة العراق والشام الإسلامية» (داعش) في الصراع للتحكم في المناطق المحررة فتح جبهة جديدة أمام كتائب الثوار وأعطى النظام فرصة لالتقاط أنفاسه.
النظام لن يستطيع السيطرة مرة أخرى على البلاد، بل يمكن القول إن النظام لن يستطيع إعادة هيمنته على الدولة حتى ولو حقق انتصارات عسكرية كبيرة. سوريا اليوم منهكة بشريا واقتصاديا، وعمق العداء الذي ولده النظام لا يمكن رأبه إلا من خلال خطة لتحقيق العدالة والمصالحة، وهي خطة لا يمتلك نظام الأسد بطبيعته الاستبدادية مفاتيحها والقدرة على تنفيذها. المشاهد السياسية الممكنة (السيناريوهات) كثيرة ولا يمكن حصرها، لكني أوجز أهمها بالمشاهد الخمسة التالية:
المشهد الأول: يؤدي إنفاق إيران للحفاظ على النظام (بمعدل 500 مليون دولار شهريا) إلى تدهور الاقتصاد الإيراني بصورة متصاعدة، وربما يدفع استمراره لمدى أطول إيران إلى الضغط على الأسد لإجبار نظامه على الدخول في حل سياسي. إرهاصات هذا المشهد بدأت تتجلى في الدور الأساسي الذي لعبته إيران لتحقيق اتفاق حمص القديمة وتلعبه اليوم مجددا للوصول إلى هدنة بين النظام وحي الوعر في مدينة حمص.
المشهد الثاني: بدء تحركات شعبية داخل المناطق الخاضعة للنظام نتيجة الوضع الاقتصادي المتردي، وإفضاؤها إلى ضغوط كبيرة تجبر النظام بالتعاون مع حلفائه على الوصول إلى تفاهم إقليمي لوضع حد للاقتتال الداخلي.
المشهد الثالث: انهيار المعارضة السياسية نتيجة لتزايد الخلافات السياسية داخلها، وزيادة قوة الكتائب المتشددة على الأرض، وخاصة داعش التي تملك قدرات تنظيمية وانضباطا تراتبيا لا تملكه المعارضة السورية، وتحول سوريا إلى منطقة صراع عسكري طويل بين النظام والقوى المتشددة، على شاكلة أفغانستان. هذا المشهد يعني تغييرا أكيدا في الخارطة السياسية يتجاوز سوريا إلى المشرق العربي.
المشهد الرابع: تمكن المعارضة السياسية والعسكرية من تنظيم صفوفها، ورأب الشرخ القائم بينها، وإعادة سيطرتها على المناطق المحررة، وإيجاد موارد محلية لاستمرار تقدمها في مواجهة النظام، انتهاء بفرض حل سياسي عليه أو إسقاطه.
المشهد الخامس: مبادرة المجتمع الدولي إلى الضغط على النظام، إما عبر تفاهم أميركي روسي، أو من خلال تحالف غربي جاد، لإجبار النظام على الدخول في حل سياسي ينهي الصراع.
المشهد السياسي السوري مفتوح على كل الاحتمالات، وربما يصعب التكهن في مآلاته، خاصة إذا أدى هذا المشهد إلى هزات اقتصادية وسياسية في دول الجوار.
ورغم تنوع المشهد وانفتاحه على احتمالات صعبة يمكننا القول بأن سوريا تولد اليوم من جديد من رحم المعاناة والجراح، وما يجري اليوم فيها سيكون له أثر عميق في منطقة المشرق العربي. نظام الأسد قد يتمكن، بسبب التلاحم الطائفي حوله، من الاستمرار لبعض الوقت، ولكنه سينهار لأنه حكم على نفسه بالسقوط لحظة قراره إعلان الحرب على شعبه.
* كاتب وناشط سياسي وحقوقي والناطق الرسمي باسم الائتلاف
الوطني السوري
الشرق الأوسط