تيارات إسلامية بين المسمى والواقع/ بشار عمر الجوباسي
يُؤخذ على التيار السلفي المصري وجناحه السياسي حزب النور عدم مشاركته في ثورة 25 يناير 2011، إلا أنّه دعم من موقع ما انقلاب السيسي، ويشارك الآن في لجنة الخمسين المكلفة بإعداد دستور على مقاس الإنقلابيين، ورغم كل ما يجري على الأرض المصرية من قبائح، ورغم كل ما سال وما يسيل من دماء مما يتناقض مع الأخلاق الإنسانية ومع مبادئ الشريعة الإسلامية، لا يزال يقف في صف الانقلاب؛ فإذا كان ذلك التيار يعتمد في تقديم نفسه للشعب على سحنةٍ مميزة من ذقن طويلة وجبين به أثر كثرة السجود، فهل سيكفي هذا بعد الآن؟ هل سيستطيعون إقناع المصريين بإسلاميتهم في أي محفل انتخابي قادم بعد كل ما بدر منهم؟ ربما كان عليهم الاستفادة من تجربة جوسبان؛ حيث توقع أغلب الخبراء والمحلّلين السياسيين تقدّم الزعيم الإشتراكي ورئيس الوزراء آنذاك ليونيل جوسبان على الرئيس جاك شيراك، ومن ثم تنافسهما معاً في المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي جرت في عام 2002، ولكن وضعت نتائج الجولة الأولى شيراك في المقدمة، ثم أتت الصدمة الكبرى بفوز الزعيم اليميني المتطرف ورئيس حزب الجبهة الوطنية جون ماري لوبان بالمركز الثاني متقدماً على جوسبان؛ لاحقاً فُسّرت تلك النتيجة بعزوف الاشتراكيين الفرنسيين عن التصويت لمرشحهم لأن حكومته الاشتراكية قامت بخصخصة عدد من الشركات والمرافق العامة أكثر من أي حكومة فرنسية أخرى عبر تاريخ جمهوريتها الخامسة، فهي إذاً لا تحمل من الاشتراكية أكثر من اسمها؛ وربما هذا ما سينطبق على الكثير من التيارات السياسية العربية.
قامت جماعة الإخوان المسلمين السورية بتأسيس حزب سياسي سُمي بالحزب الوطني للعدالة والدستور (وعد) ولا تزال تتضارب الأنباء عن الموعد الرسمي للإعلان عنه، بعد أن تم في مؤتمره التأسيسي وضع الخطوط العريضة والنظام الداخلي له وانتخاب رئيس ونائب رئيس وهيئة تنفيذية مؤلفة من أحد عشر عضواً، يمثل الإخوان ثلثها، في حين تُرك الثلثان الباقيان لممثلين من كافة أطياف المجتمع السوري.
وصرّح رئيس الحزب السيد محمد وليد أنّ حزبه ليس جناحاً لجماعة الإخوان المسلمين، وليس بالضرورة أن يكون كل عضو فيها عضوا في حزب وعد، كما تمّ تقديم الحزب على أنّه حزب مدني ذو مرجعية إسلامية وسطية، وأنّه منفتح على جميع أبناء الوطن باختلاف أديانهم وقومياتهم وعشائرهم؛ وربما حاولوا الترويج لتلك الصورة بإسناد منصب نائب رئيس الحزب لشخصية مسيحية هو السيد نبيل قسيس، لقد عملوا على استنساخ التجربة المصرية بأدق حذافيرها. فإذا كان الإخوان المسلمون السوريون يستعدون للظهور أمام شعبهم والغرب أولاً بصورة جديدة تشبه حزب العدالة والتنمية التركي، فهل سيستطيعون إقناع المواطن البسيط متواضع التعليم والثقافه بالتصويت لحزب يشكل العلمانيون وغير المسلمين ثلثي قيادته، فهل ستتكرر تجربة جوسبان معهم أيضاً. وكذلك الأمر بالنسبة لـ’القاعدة’ التي دائماً ما تاهت بوصلتها الجهادية فلم نسمع مرّة عن عملية لها ضد الكيان الصهيوني، وهم يكفرون جموع المسلمين. أما في سورية فيسعون للاستئثار بالأراضي المحررة أكثر بكثير مما يساهمون في محاربة النظام الإرهابي، وجلبت أعمالها الويلات على المسلمين في كل مكان، وقد غدت موضة الخطاب الغربي تتهمهم بالإرهاب حتى إن قاموا بالدفاع المشروع والطبيعي عن حقوقهم ووجودهم، خاصة في البلدان التي يشكلون فيها أقلية، فأي شعارات حملت وأي نتائج تمخضت عنها.
لا ينفَّك خصوم الإخوان المسلمين في كل مكان عن اتهامهم بكونهم تنظيما عالميا يسعى إلى السيطرة على الحكم في الدول الإسلامية، تمهيداً لإقامة دولة الخلافة التي ترعب الكثير من الملوك والرؤساء المسلمين قبل الغربيين؛ لكن تثبت الحقائق على أرض الواقع أن ذلك التنظيم العالمي إن كان موجوداً، فلا يتعدى نشاطه الحالي حدود التعاطف المعنوي، الذي لم يترافق إلا بالقليل من التصريحات الإعلامية فقط، ولم نشاهد في هذا الإطار إلا موقفا واحدا للإخوان المسلمين المصريين تجاه أهالي غزة أثناء العدوان الصهيوني عليها في تشرين الثاني/اكتوبر عام 2012، إلا أنّه ليس أكثر من موقف بديهي لا يرقى إلى أقل أماني وطموحات الشعوب العربية والإسلامية، في حين لم نشاهد لهم دورا عمليا واضحا في دعم الثورة السورية، بما يتوافق مع ما كان يتوقعه السوريون منهم بعد استلامهم الحكم، لا بل حاولوا التقّرب من داعمي النظام الإرهابي في كل من روسيا والصين وفتحوا الباب أمام إعادة العلاقات مع إيران، ربما كان ذلك في سبيل الضغط على دول الخليج، ولكن في النهاية لم يقدم ذلك شيئاً إلى الثورة السورية ولم يخفف شيئاً من معاناة شعبها.
أما مع حكومة النهضة في تونس فالوضع أشد قتامةً ومأساوية فمن بعد عقد المؤتمر الأول لأصدقاء سورية فيها أواسط العام الماضي لم نعد نلمس حتى تصريحات إعلامية داعمة للثورة السورية، ثم أتى اتّهام وزير الداخلية في تلك الحكومة الثوار والشعب السوري بأقبح وأفظع ما يُتهم به العربي مطلقاً أكذوبة جهاد النكاح، التي ظلّ يتردد صداها في الإعلام إلى أن ظهر الحق أخيراً؛ وساهمت بإظهاره مجلة ‘دير شبيغل’ الألمانية ثم أكّدت كذب تلك التهمة تقارير صحافية أمريكية وإنكليزية أخرى؛ لكنّنا لم نسمع عن أي مُساءلة لذلك الوزير أو اعتذار للسوريين من قبل أي متحدث باسم الحكومة التونسية، فما جاء به ذلك الوزير من إفك يستدعي أقل ما يستدعيه الاعتذار حتى لو كان تجاه اي دولة وليس تجاه سورية المنكوبة وشعبها الذبيح.
إلى الآن لم يتردد صدى الأزمة السورية في أروقة قصور ودوائر الحكم في الدول العربية، إلا من خلال المصالح الخاصة لأولئك الملوك والرؤساء فالسلاح الذي يُقدّم القليل منه للثوار تبقى نوعيته بيد الأمريكيين، ورغم كل ما تفعله الطائرات الحربية بالسوريين لا يتجرأ أحد على إمداد الثوار بما يدفع الموت عن أطفالهم، كان يُعوّل السوريون على دعم من العرب لثورتهم، خاصة دول الربيع العربي، ولكن لم تثمر تلك الأماني وبدّدتها الأيام.
ربما لم يتمكن الإسلاميون من الإمساك بزمام السلطة بشكل حقيقي إبان وصولهم إلى سدّة الحكم، سواء أكان ذلك في مصر أو تونس، لذلك لم نجد لهم دور في دعم الثورة السورية، ولم يتمكنوا من إدارة بلدانهم أصلاً ثم أتت ضغوط خارجية أجبرتهم على اتخاذ مواقف براغماتية صرفة؛ فقد أجبر الرئيس المصري محمد مرسي على التحرك نحو إقامة علاقات مع إيران، رغم كل جرائمها تجاه الشعب السوري، في محاولة منه للهروب إلى الأمام من الضغط الخليجي، وعندما طرد سفير النظام السوري واستضاف مؤتمر للعلماء المسلمين لدعم الثورة السورية لم تمهله الأقدار حتى وقع الانقلاب، أما تونس فلا تزال حكومة النهضة تواجه التحديات تلو التحديات ولما تنتهي من حلّ مشاكلها الداخلية المزمنة حتى تسعى لدور سياسي خارجي، ولكن ذلك لا يعفيها من اعتذار للسوريين عما بدر من وزير داخليتها.
بيّنت التجربة في دولنا العربية أنّ فوز الإسلاميين أو أي تيار وطني آخر بالانتخابات لا يكفي لكي يحكموا بلادهم، بل يجب عليهم العمل على تغيير كافة مؤسسات الدولة التي تربت لعقود في ظلّ حكومات دكتاتورية فاسدة تمخض عنها قضاء فاسد وجيش وأجهزة أمنية ترتبط بأجندات الخارج لا بمصلحة الشعب، ولا زالت ترى نفسها فوق القانون، فالديمقراطية في الدول العربية تحتاج ربما لأجيال حتى تبصر النور بشكل حقيقي وعملي، إذ لا ينقصها ما يتربص بها من عشائرية وطائفية ودول عميقة محلية حتى تأتي الأيادي الخارجية الغربية والعربية على حدٍ سواء لتعبث بها.
كاتب سوري
القدس العربي