تيري إيغلتون مقدمًا “من أجل نظرية في الإنتاج الأدبي”
تيري إيغلتون
تقديم
كثيرة هي الكتب المهمة التي لم تنل حقها من الاهتمام، ولم تستقبل بالشكل الذي يليق بها على الرغم من قيمتها العلمية الكبيرة، ومنهجها النقدي المتميّز. ومن بين هذه الأعمال كتاب: من أجل نظرية في الإنتاج الأدبي للناقد الماركسي بيير ماشري، وهو عمله الأول الذي صدر سنة 1966 في فرنسا عن دار ماسبيرو، ضمن سلسلة “النظرية” التي كان يُشرف عليها لوي ألتوسير.
وعلى الرغم من أن هذا الكتاب عدّ من أكثر الأعمال النقدية تأثيراً في حقل الدراسات الاجتماعية للأدب، فقد لاحظ كثير من الدارسين الاستقبال المحتشم الذي قوبل به في فرنسا إبّان صدوره، على الرغم من جدة أطروحته وتماسك مقترحاته الرامية إلى تجديد الدراسة الأدبية وإعادة بناء علاقتها بموضوعها على أسس مختلفة، وذلك باستدعاء مفاهيم مغايرة لتلك التي كانت متداولة خلال حقبة النقد الجديد La nouvelle critique. ولربّما من بين العوامل التي أسهمت في ترك الكتاب في الظل هو صدوره إبان الفورة البنيوية التي استحكم بنقادها الفرنسيين ما سمّاه بيير ماشري “الوهم الأمبريقي”. وفي هذا الكتاب أعاد الفيلسوف والناقد بيير ماشري طرح سؤالي ما النقد؟ وما الأدب؟ بكيفية مختلفة تنفتح على كل الاتجاهات لتنتهي إلى مقاربة كثيفة ومركبة تهدف إلى نزع الأوهام التي تتدثّر بها المقاربات النقدية المتداولة من البنيوية إلى نظرية الانعكاس، مروراً بالهيرمينوطيقا، وكلها لم تكن، في نظره، قادرة على الخروج من موضوعها. وفي هذا السياق طرح بيير ماشري مفهوم “الشروط المحدّدة” التي في إطارها يتم إنتاج العمل الأدبي، حيث يتعيّن الأدب بوصفة النتيجة غير النهائية لسيرورة إنتاج. ومعنى هذا أن سؤال بيير ماشري ينصبّ في نفس الوقت على من ينتج الأدب، وكذلك على ما ينتج عن الأدب.
هذا الكتاب الجيّد في موضوعه ومنهجه أُعيد طبعه سنة 2014 ضمن منشورات المدرسة العليا للآداب والعلوم الإنسانية بباريس، في طبعة أنيقة، أضاف إليها الناشر مقدمة الطبعة الإنكليزية الجديدة الصادرة سنة (2006) من توقيع الناقد الإنكليزي تيري إيغلتون، بالإضافة إلى ملحق جديد من توقيع بيير ماشري. ونظراً لأهمية هذا الكتاب الذي لفت نظر كثير من النقاد العرب منذ الثمانينيات بمنهجيته الفريدة وطريقته المختلفة في مناقشة وعرض علاقة الأدب بالمجتمع، نقدّم ها هنا ترجمة للمقدمة اللمّاحة التي كتبها تيري إيغلتون وتضمنتها هذه الطبعة الفرنسية الجديدة.
نص الترجمة
صدر كتاب “من أجل نظرية للإنتاج الأدبي” سنة 1966 وقد أحدث تأثيرًا كبيرًا في الأوساط النقدية لليسار البريطاني حتى قبل ظهور الترجمة الإنكليزية سنة 1978. وبما أن هذا العمل كتب قبل أحداث مايو/ أيار 1968 بقليل، فقد كان سبّاقًا إلى الإعلان عن هذا التحوّل الجذري بنظرياته الطموحة ووضوحها الصارم. ظهر الكتاب في بريطانيا بداية السبعينيات، وهي مرحلة تميّزت بدرجة عالية من الالتزام واحتضان المقولات النقدية الماركسية، ومن هنا لم يكن هناك أي داعٍ للخشية من استقبال غير مناسب للكتاب. فهذه الدراسة التي لم ينتبه إليها الجمهور في باريس، والتي كان صاحبها يشغل منصب أستاذ مساعد، صارت فجأة بمثابة الوصفة الأخيرة المتاحة لتجديد النقد، وهدية من السماء تلقفها نقاد جذريّون بريطانيون بحثاً عن أفق بديل لجورج لوكاش (الذي يمثل الكتاب ردًا قويًا على أطروحته)، وقد كانوا متأثرين بأحد ملهمي بيير ماشري، الفيلسوف الماركسي لوي ألتوسير. لقد عبّر بيير ماشري في هذه المرحلة، خلال إقامة في بريطانيا، عن موقفه من الشهرة التي لقيها عمله، موقف بدا أقرب إلى الاستغراب منه إلى البهجة العارمة، فقال بتواضع بأنه كان فيلسوفًا، ولم يكن ناقدًا للأدب.
الحقيقة أن بيير ماشري كان أول ناقد تأثّر بألتوسير وتمثّل نظريته بعمق. فالكتاب، باختصار شديد، يتضمّن مجموعة من المفاهيم الأساسية التي اجترحها ألتوسير من قبيل: إنتاج، إشكالية، إيديولوجيا، معرفة علمية، ومفاهيم أخرى مجاورة طبّقها في دراسة العمل الأدبي، وهذا ما لم تكن هذه المفاهيم مسخرة للقيام به أول مرة. وهذه المقدمة لا تتوخّى إبراز أصالة بيير ماشري الذي لا يتردد في الخروج عن المعايير السائدة. إن ما يقترحه كتابه هو نظرية جديدة للأدب، نظرية، بتواضع ومن دون مبالغة، تخلخل بقوة مجموعة من رموز النزعة الإنسانية الليبرالية. فالنص الأدبي لا ينبغي أن يعدّ تعبيرًا عن ذات الإنسان، ولا انعكاسًا للواقع. فالنص ليس له عمق أو مركز أو وحدة أو أصل واحد. فهو ليس نتاج مقصدية الكاتب، وإنما هو محصلة سيرورة إنتاج تشبه عملية إنتاج قميص أو سكوتر scooter، سيرورة تشتغل بكيفية مستقلة عما يفكر به الكاتب. فالكاتب كما يرى ماشري هو “القارئ الأول لعمله”.
يتسم إسهام نظرية بيير ماشري في تحديد النقد كذلك بالجذرية. فليس النقد انعكاسًا للعمل الأدبي أو استنساخًا له، وإنما هو عمل على النص ينقله كليًا إلى فضاء جديد، ما يتيح فهمه بطريقة لا يمكن الوصول إليها حتى بالنسبة للعمل ذاته. وبدلاً من الاكتفاء بتطوير ما يمكن تسميته بـ الوعي الخاص بالعمل، والكشف عن الصيغة التي بها يرى (أو يفضل أن يرى)، يسعى النقد الأدبي، مثل النقد النفسي الذي ترتكز عليه منهجية ماشري، إلى إبراز لاوعي النص أو ذلك الجانب الخفي منه. وبكيفية مماثلة لما يقوم به الطبيب النفسي أثناء الإنصات إلى المريض، يفهم التحليل النقدي ما تم التعبير عنه من خلال ما تم السكوت عليه، على ضوء أنماط العنف والهروب والانزلاق والتناقضات العرضية للنص، وصوامته الدالّة. ففي ما يسكت عنه العمل الأدبي، وليس فيما يصرّح به أو يصوره، تظهر، بكيفية واضحة، علاقة العمل الأدبي بالتاريخ. النقد الأدبي، إذاً، يكلّم ما يكون العمل الأدبي مدفوعًا إلى إخفائه بأي ثمن حتى يظل على ما هو عليه. إن مهمة النقد ليست الكشف عن حقيقة العمل المخفية، بل هي البرهنة على أن حقيقة العمل معروضة للنظر في التباينات الضرورية من الناحية التاريخية بين مختلف مكوناته.
كيف يمكن تأويل هذا التأكيد؟ لتحقيق ذلك ينبغي أولاً الانكباب على مفهوم ماشري للإيديولوجيا. وتبعا للفهم الألتوسيري الخالص، تحضر الإيديولوجيا في كتابه ليس كبنية محددة من الأفكار، وإنما كمادة للحياة اليومية لا شكل لها ولم تتبلور بعد. (إن الصلاحية التي يمكن إضفاؤها على معادلة بسيطة بين الإيديولوجيا والتجربة هي مسألة أخرى). الأدب يتغذّى من الحياة الواقعية، ومن هذه الزاوية فإن موضوعه الأساس هو إيديولوجيا تاريخية أو أخرى. غير أنه لا يكتفي فقط بعكس هذه الإيديولوجيا، كما تقول بذلك النصوص الأولى للنقد الماركسي. وبما أن الأدب هو مسألة شكل فني بالأساس – حيث يتركز التساؤل على بعض الاستراتيجيات والعمليات المحددة – فإن العمل الأدبي لا يعكس الإيديولوجيا هكذا، بل يشخّصها أو ينتجها، حيث يمنحها شكلاً نهائيًا. بهذا الصنيع، يكشف العمل عن حدوده، عن غيابات وتناقضات الإيديولوجيا التي هي تقريبًا مرئية في الحياة اليومية، حيث الإيديولوجيا، قريبة جدًا من العين كي تدرك بشكل ملموس.
بحسب ماشري، العمل الأدبي لا ينفصل عن الإيديولوجيا، وهو ما يمثل وهمًا إنسانويًا ليبراليًا آخر، غير أنه لا يغرق فيها بلا رجعة. وبدلاً من ذلك، يبدو أن العمل الأدبي يأخذ مسافة من الإيديولوجيا من الداخل. فهو يؤطّرها، ويعرضها، ويوقفها ويوضّعها. وفيما هو يجعل حدودها وتعارضاتها مكشوفة، تبدأ عملية تفكيكها. وبما أن الإيديولوجيا، إذا جاز التعبير، تتميّز بكونها ممانعة ولا تقبل الإقرار بوجود حدود خاصة بها (بما أنها تفترض الكونية)، فإن مجرد العمل على تثبيتها والكشف عن محدوديتها يعدّ ضربة لها. تتميّز منهجية ماشري كلها بدرجة عالية من التناقض. الشكل الأدبي يضفي الشكل على المادة التي لا شكل لها (الإيديولوجيا)، غير أن هذا يكون بهدف الكشف عن تناقضاتها والتباساتها بطريقة يغدو فيها العمل الأدبي مفارقًا لذاته، مصفى من الدلالات المتباينة. الفن ليس إيديولوجيا فقط، ولكن العلم، أي منهجية التحليل النقدي الماركسي ذاتها، ليست كذلك تقريبًا بحسب المنظور الألتوسيري. يتعلّق الأمر إذن باتفاق بين الطرفين.
بما أن مفاهيم المسافة والاستلاب والإدراك الحسي، فضلاً عن مفاهيم أخرى مشابهة توجد غالبًا عند الشكلانيين الروس، فإن مقترح ماشري هو توليف أصيل بين الماركسية والشكلانية والتحليل النفسي (على الرغم من أن فرويد يشكّل موضوعًا لصمت عرضي في دراسته). وعلى غرار فرويد الذي يأخذ نص الحلم المنسجم ظاهريًا، والمتعلق بالمريض، حيث يركز على مظاهر الغياب والتكرار والتحولات العرضية، فيفكك الحلم من خلال لعب قوة غير واعٍ، وأقل تجانساً، يرفض ماشري أن يبقى أسير الوحدة البرانية للعمل الأدبي، إذ يفضّل أن يحلله من الداخل بحثًا عن المناطق العصبية التي تنهض من داخله بإفشاء أسرار الحضور المعتم للقوى التاريخية المتصارعة. وإلى حدّ ما فهو يقلّب سجاد النص المعدّ بدقة وإحكام، لعرض فوضى الخيوط التي تكون العمل.
هذا الرفض لمذهب الوحدة الجمالية يقدّم أوفى دليل على أصالة جلية تتمثل كذلك في رفض سلسلة من الفرضيات حول الطبيعة الكلية، العضوية للعمل الفني، تلك الفرضيات التي ما فتئت تستعاد منذ أرسطو إلى النقد الجديد الأمريكي. بالنسبة لماشري من ناحية أخرى، العمل الفني الأدبي هو عمل منزوع المركز ومحول. فهو على حدّ تعبيرنا ممزق من الداخل بسبب علاقته بما هو خارجي، وقد يكون العالم الإيديولوجي الذي يرتكز عليه كي يعمل. فهو يتكون من عدد من العناصر المتصارعة التي من مهام النقد أن يعرضها ويفسرها وليس أن يفككها بوئام. ليس النقد خادمًا للنص يهرع لمساعدته، وإنما هو “قارئ أعراض” حيث مهمته تكمن في إضفاء طابع نظري على ضرورة التنوع النصي. لماذا نجد أن مختلف حبكات العمل الفني هي بالضرورة متنافرة؟ كيف يحدث أن تقول شيئًا وتعرض شيئًا آخر؟ كيف يكون ممكنًا بالنسبة للعمل أن يستبد به حضور الكلمات والعناصر التي ينجح بصعوبة في الربط بينها، بينما ترفض مع ذلك أن يتم إبعادها؟ بالنسبة لماشري، الجواب على كل هذه الأسئلة يكمن في العلاقات المعقدة بين النص والإيديولوجيا والتاريخ. ليس المهم، كما يدعي النقد الماركسي الهيجلي لجورج لوكاش ولوسيان كولدمان، هو أن كل واحد من هذه المستويات يعكس باقي المستويات. ها هنا، العلاقات ذات الأهمية هي التي تتعلق بالإنتاج والانحراف والتحويل والسلبية.
هذا الاستقصاء الناجح يطرح كثيرًا من الأسئلة. كتاب من أجل نظرية في الإنتاج الأدبي يعرض رؤية علمية للنقد الذي يبدو اليوم موضع ريبة، مستقلة عن التاريخ وعلى مسافة من موضوعها. فمفهومه للإيديولوجيا هو أيضًا اليوم موضع ريبة وشك. فهو يراهن على الشكل الأدبي كما لو أن هذا الأخير يملك ما يكفي من القدرة لتقويض سلطة الإيديولوجيا على الرجال والنساء. هذا البحث ينسى مع ذلك أن الشكل الأدبي هو الإيديولوجيا، لدرجة أنه لا يوجد تعاقد أو مقترح أدبي ليس بحد ذاته غير محمّل بثقل التاريخ. بتعبير آخر، الشكل الأدبي لا يتموضع في جانب من المعادلة، والإيديولوجيا في الجانب الآخر.
نستطيع طرح أسئلة عديدة. غير أن قوة هذا الكتاب الرائد تكمن تحديدًا في القدرة على إثارة الأسئلة، ودفع القارئ إلى أن ينظر نظرةً جديدة إلى النقد والسرد والوحدة النصية والإيديولوجيا واللاشعور الأدبي، وإلى سلسلة أخرى من المفاهيم. عندما انتهى ماشري من هذا الكتاب، بدأ الاشتغال على عمل آخر حول سبينوزا. لقد كان، كما لاحظ من قبل، فيلسوفًا وليس ناقًدا. وعلى الرغم من ذلك فإن النقد سيكون هاجسه الأساس لفترة طويلة.
المترجم: ترجمة إدريس الخضراوي
ضفة ثالثة