تيّار “شهداء النظام السوري” .. أم 13 تشرين؟
بشارة خيرالله
في الرابع عشر من أيلول 1990 زار ناظر الخارجية الأميركية جيمس بايكر سوريا والتقى رئيسها مطولاً ليبلغه موافقة أميركا على اقتحام المناطق الخاضعة لسيطرة العماد ميشال عون، بعد أن رفض الأخير مقترحات الأخضر الابراهيمي في آخر لقاء بينهما، في وقت كلف فيه الجنرال “مكتبه المركزي للتنسيق الوطني” BCCN مهمة التنسيق مع الرئيس سليمان فرنجية، “الوعد”، “التقدمي الاشتراكي”، “السوري القومي” بجناحيه، “رابطة الشغيلة”، “الناصريين” و”حزب الله” بهدف كسب الوقت وفقاً لأقرب المقربين، لكن هذا التنسيق لم ينتقل إلى المرحلة التطبيقية لأن سوريا الأسد كانت قد أبرمت الاتفاق مع أميركا ومن خلفها إسرائيل، هذا الاتفاق الذي أتى مكافأة للأسد الذي حوّل ضباطه وجنوده إلى رفاق سلاح للمارينز في حرب تحرير الكويت. فكان من الطبيعي أن يفشل السفير الفرنسي رينيه ألا برفع الحصار، وتأخير قدر 13 تشرين المشؤوم.
صبيحة 12 تشرين الأول 1990، دخل المدير العام الأسبق للأمن العام اللواء نديم لطيف ليفيد رئيس الحكومة الانتقالية العماد ميشال عون بتقرير عن حشود سورية على الجبهات، أجابه عون: “الحشود ما بتخوّف حتى لو كانوا ميّة ألف عسكري، نحنا منعرف طبيعة الأرض”.. سأله لطيف: “وإذا استعملوا الطيران؟”.. عون: “ساعتها بتكون أميركا باعتنا لسوريا”.
بعد ظهر الجمعة 12 تشرين الأول أطل علينا (كنت هناك) الجنرال بعبارته الشهيرة “يا شعب لبنان العظيم”، فعاجله فرنسوا حلال وبتكليف من النظام السوري بأربع رصاصات قتلت إحداها مرافقه الشهيد جوزف رعد.. قفز النقيب شامل روكز لإنقاذ مطلق النار من موت محتم على أيدي الحشود المتجمهرة في باحة القصر.. صبيحة 13 تشرين، وكان ما كان.
في هذا الايجاز وفي هذه المناسبة، أردت تذكير مَن خانتهم الذاكرة (عون وباقي الرفاق) بإجرام النظام السوري الذي يقتل القتيل ويمشي في جنازته عكس الادعاء العوني الجديد، المبشّر بعفاف “الحلفاء القَتَلة”، من الأب الراحل إلى الشبل “الراحل”.. فعند إعلان مقتل حسن تركماني، داوود راجحة، هشام بختيار وآصف شوكت، خيّل لي للحظات قليلة أن “الحس الوطني العوني” سيمنع ذوي الجنرال من البكاء والنحيب على “الشهداء القادة” رفاق سلاح السيد حسن نصر الله. فعون الواقع بين التاريخ الدموي لهؤلاء الذين أعدموا شهداء الشرف، التضحية، الوفاء والواجب في مذبحة 13 تشرين الأول 1990 في بدادون وبسوس وضهر الوحش، وقتلوا جبران تويني وسارية حسون (نجل المفتي حسون) وفقاً للوثائق المسربة والتي تؤشر إلى المزيد الحتمي من المعلومات يوماً بعد يوم. وبين تقديس هؤلاء القتلة من قِبَل السيد نصر الله الذي يجاهر بالجهاد في سوريا (جهاد ضد مَن؟) والذي سبق له أن رأى في حليفه الحالي عماد “الإلغاء والتحرير” ميشال عون، “حالة إسرائيلية” تطابقاً مع الرؤية السورية لأي متمرد على قرارها، في حين كان يتلذذ العماد عون بوصف جماعة “حزب الله” بعملاء سوريا، والأرشيف يشهد.
اليوم، يحتفل العونيون بذكرى 13 تشرين، ذكرى الشهداء الأبرار الذين باعهم الجنرال والوفد المرافق بثلاثين من البوظة الشامية في سوق الحميدية، يوم هللنا فرحين للمصالحة العلنية تلك وبعد خروج آخر جندي سوري من لبنان، فرحنا بالمصالحة مع الشعب السوري والتي رأينا فيها بارقة أمل بعودة المعتقلين من “أقبية بشار”. ركبنا الطائرة الخاصة، ذهبنا إلى هناك، ففي المكان جزء من تاريخنا، صورة راسخة في وجداننا، وهناك أيضاً، أمانة عالقة في أعناقنا، علينا استردادها بأي ثمن، هناك أبطال ورهبان معتقلون، أبسط الإيمان يجعلنا نحاول المستحيل لاستردادهم، أحياء كانوا أم شهداء، وفاء لذكرى 13 تشرين ومعناها الكبير، وفاء لقناعاتنا، وفاء لتاريخنا وعبرة للأجيال، أننا “قوم لا يترك أسراه في السجون”. فبعد ذوبانها التام مع “حزب الله”، أخذت الحالة العونية كل شيء من خصاله وشعاراته، إلا الشعار هذا لاسترداد المعتقلين من السجون السورية.
لحظة إعلان مقتل “الشهداء القادة” قَتَلة الـ30000 شهيد سوري، أدركت ان شهداء 13 تشرين يرقدون بسلام أكثر من أي لحظة مضت، ينتظرون المزيد من الأخبار السارة، ليس ضرورياً أن تكون الأخبار عن جثث تمر عند حافة النهر، ينتظرون معرفة مصير الرفاق الأبطال، ينتظرون زوال عهود، رحيل حكام، نهاية أساطير وهمية ويتطلعون بشغف الى الربيع العتيد ووروده ينتظرون عدالة السماء.
لحظة رفض أهالي شهداء إيليج استقبال الجنرال السائح في بلاد جبيل لزيارة السبع كنائس الانتخابية، أدركت شعور هؤلاء بالمسؤولية المعنوية تجاه تاريخهم، تجاه حاضرهم والمستقبل. تفهمت رفضهم القاطع لفكرة الزيارة لأن رفضهم هذا ومع شراسته الحادة في الشكل، لقن ذوي العماد درساً عله يكون شافيا! مضمونه أن مَن لا يحترم شهداء معركة كان هو قائدها، لن يحترم شهادة مَن قُتل في مواجهة كان هو أيضاً قائدها، ومَن ليس له خير بشهداء الجيش حتماً لن يفيض خيره على شهداء “القوات”.
كل هذا، والعماد القائد يُغالي بالقول والفعل وثلاثاء بعد ثلاثاء في مبايعة الأسد، يحتفل بذكرى 13 تشرين وهو يدعم من قَتَلَهم من دون خجل، يقتلهم على الأقل في الأسبوع مرات، مع كل استقبال تفوح منه رائحة “الممانعة” العفنة. يقتلهم، عند كل مفترق وفي كل جولة وعند كل صياح ديك، غير أنه بعذابات ذويهم وأوجاع أمهات فقدن الغوالي دفاعاً عن حرية وسيادة واستقلال لبنان، لا في سبيل الدفاع عن بشار الأسد ونظامه السفاح والرسل المدججين بالعبوات، كأنه يحاول أن يصنع أكبر تراجيديا في تاريخ الشعوب: “بكاء الضحية على هزيمة الجلاد”. يوم “استشهاد القادة رفاق السلاح”، هرول نواب “التغيير والاصلاح” موفدين من القائد المشرقي الى سفارة النظام لتعزية سفير الخطف، بدلاً من زيارة صنوبرات ضهر الوحش مكان إعدام العسكريين الأبطال للصلاة هناك، بعد أن تحققت العدالة السماوية. هرولوا لتقبيل السفير المطرود من عزاء غسان تويني إكراماً لروح جبران واحتراماً لشهادته وذكراها العطرة ومنعاً لتدنيسها، فلا عجب بعد اليوم إن رأينا ممثلاً للأسد في قداس دير القلعة، مع ما للمكان من رمزية، حيث عاثت قوات النظام قتلاً وخطفاً بعد أن أطبقت على الشجعان الذين افتدوا بلادهم بدمائهم، وحيث اختطفت رهباناً شهدوا المجزرة.. فأين كرامة الرهبان المخطوفين يا دولة الرئيس الخائف على مصير المسيحيين؟
اليوم وفي الذكرى الأليمة للشهداء، نسي الجنرال مطلبه الأساس: ًأفضل العلاقات مع الشعب السوري”، مستبدلاً العلاقة مع الشعب بالعلاقة مع النظام الدموي الذي يقتل الشعب، يا لسخرية القدر، يا لتعاسة شهداء 13 تشرين يُقتلون ويُقتلون ويُقتلون، وعلى يد مَن؟
لا يا جنرال، لن نقبل بأن نكون تيار “الشهيد” آصف شوكت، نحن تيار شهداء 13 تشرين الذين أعدمهم رفيق سلاحك، وسائر “الرفاق” الذين يصنعون 13 تشرين سورياً كل يوم. كنا هكذا وسنبقى، أما أنت، فابق في سجن عونيتك المتحالفة مع الاستبداد واعلم ان رهانك خاسر وزائل مع الرحيل الحتمي لهؤلاء.
بالأمس القريب، كان “الحمصي” مادة للنكتة والفكاهة، قبل أن تجعل منه الثورة السورية بطلاً على مذبح الشهادة التي حوّلته إلى أمثولة.. اليوم يتربع “العوني” على عرش الفكاهة نفسه مع رشّة من السخرية كل ثلاثاء، فهل ستكون محاولة الاغتيال الاحتيال الفاشلة آخر فصل من هذه المسرحية المضحكة، قبل إسدال الستارة؟
المستقبل