ثائر ديب.. المثقف في زمن الأزمات
المترجم السوري: أعيش كما ينبغي لمثقف وطني ديمقراطي أن يعيش. مع شعبي أولاً. ومع الحركة الوطنية الديمقراطية واليسارية التي أنتمي إليها ثانياً.
ميدل ايست أونلاين
بقلم: رضاب فيصل
تمتاز ترجماته بدقتها العالية وحساسيتها المنصفة
عندما يُظْهِرُالاحتجاز والتعذيب في معتقلاتنا أجمل ما في الإنسان، تمسي الحياة تحدياً يثير أسئلة غير مألوفة عن معنى الإنسان ومعنى العيش ومعنى المقاومة…، فإذا ما كان ذلك الأجمل نتاجاً ثقافياً، كان لا بدّ من طرح أسئلة عن معنى الثقافة، وعن تلك الأنواع الثقافية التي قد تكون الأصدق والأكثر تأثيراً كونها وليدة المعاناة والألم.
ثائر ديب، كما يكتب اسمه على نتاجه الثقافي، أو ثائر علي ديب، كما هو اسمه في البطاقة الشخصية، مثقفٌ سوري من مواليد 1962، كان قد درس الطب قبل أن تقوده خياراته الفكرية والسياسية، بل قبل أن يقوده القمع والعسف، إلى المعتقلات السورية الشهيرة، حيث استغلّ تجربته هناك في فعلٍ ثقافي نحتاجه كثيراً:ترجمة كثير من الكتب والدراسات الرصينة المعنيّة بالفكر النقديّ والمنهجيات والنظريات الأدبية والفلسفية والأديان، فضلاً عن التحليل النفسي وبعض الأدب، يُضاف إلى ذلك كلّه مواظبة لا تنقطع على الكتابة الفكرية والثقافية.
تمتاز ترجماته بدقتها العالية وحساسيتها المنصفة. ولطالما أعجبت مترجمين ونقاداً وصفوها بأنها تجمع بين الانضباط ومرونة اللغة، حتى تكاد تشبه الأصل المؤلَّف.
لا يكفّ عن الكلام على الثقافة سواء في جلساته الخاصة أم في كتابته أم في المؤتمرات التي يُدعى إليها، خاصةً الترجمة التي يعتبرها شغلاً فكرياً وعلمياً وعملياً عميقاً لا مجرد هواية أو حرفة كما يمارسها بعضهم. وخلال أشهر لا تتعدّى أصابع اليد الواحدة، تسلّم خلالها مديرية الترجمة في الهيئة العامة السورية للكتاب. استطاع أن يحظى للمترجمين والمثقفين السوريين والعرب بجائزة للترجمة باسم المترجم القدير سامي الدروبي وبمجلة للترجمة ودراساتها هي “جسور” التي رأس تحريرها، وكان يخطط لتقديم اقتراح بإنشاء معهد للترجمة تابع لوزارة الثقافة، شأن المعهد المسرحي والمعهد الموسيقي، الأمر الذي يجعل صناعة الكتاب المترجم في وزارة الثقافة السورية دورةً واحدة متكاملة.
بين الهزل والجدّ، يعلّق ثائر ديب على قصته مع الترجمة، فيقول: “كثيراً ما يخطر لي أنَّ “الكرسي الألماني” هو السبب. وهذا الكرسي هو إحدى وسائل التعذيب الوحشية التي تترك أطرافك مشلولة لأشهر ولا تزول آثارها تماماً بعد ذلك، ربما كان هذا الكرسي خير معلّم للترجمة. فعلى اعتبار أنّ هذا الكرسي ألمانيّ ويستخدم في سياق عربيّ، فنحن إزاء فعل من أفعال الترجمة إذاً”. ويضيف: “ما أريد قوله هو أنّ بمقدورك أن تحوّل السجن والتعذيب إلى فعل مقاومة. لقد قرأت هناك كثيراً، وخرجت ومعي أربع مخطوطات. ولم أترك للجدران أن تتغلّب على روحي”.
أَقْدَم، إلى الآن،على ترجمة عشرات الكتب والمؤلّفات العسيرة:”نظرية الأدب”، “أوهام ما بعد الحداثة”، “فكرة الثقافة” لتيري إيغلتون؛”بؤس البنيوية: البنيوية والنظرية الأدبية” و”نزع مادية كارل ماركس: الماركسية والنظرية الأدبية” لليونارد جاكسون؛”موقع الثقافة” لهومي بابا؛ “الجماعات المُتخيَّلة” لبندكت أندرسون؛ “النظرية النقدية: مدرسة فرانكفورت” لآلن هاو؛ “تأملات حول المنفى” لإدوارد سعيد؛ “ثقافة الطائفية” لأسامة المقدسي؛ “الترجمة والإمبراطورية” لدوغلاس روبنسون؛”علامات أُخِذَت على أنها أعاجيب: في سوسيولوجيا الأشكال الأدبية” لفرانكو موريتي؛ “نشوء الرواية” لإيان واط؛”الله: سيرة” لجاك مايلز؛ “23 عاماً: السيرة النبوية المحمدية” لعلي الدشتي؛”الحياة اليومية زمن العهد الجديد” لجيمس و. إرماتِنْغِر؛ رواية “إنجيل الابن”لنورمان ميلر،”فرويد وبوذا”لإريك فروم، “البوذية والتحليل النفسي”لسوزوكي؛ وغيرها كثير.
يرى ثائر ديب أننا، في سوريا والعالم العربي، نحتاج آخر ما كُتب في العالم، خاصةً ماتعلّق بالفكر النقدي والعلمي. يقول: “أحسّ بميل إلى البحوث والدراسات. ولعل الترجمة كانت نوعاً من الإرضاء لهذا الميل، خاصة أن معظم الأعمال التي قمت بترجمتها هي دراسات فكرية ونقدية. تثير اهتمامي كثيراً المنظومات الفكرية والمعرفية أو النظريات، تثيرني كثيراً كيفية بنائها، بصرف النظر عن مدى صحّتها أو اقتناعي بها. وأضيف إلى هذا أنني مقتنع بأن أكثر ما ينقص الثقافة العربية هو الدراسات العلمية والفكرية والمعرفية والنقدية، دون أن ينتقص ذلك من أهمية الأدب بشتى أنواعه”.
فيما يخص قراءة الكتب والدراسات ومطالعة الأبحاث وانخفاض معدلاتها في مجتمعنا، يؤكّد مترجمنا الطبيب أنّ المسؤولية في هذا الضعف لا تقع على كاهل المؤسسات الرسمية والأفراد المثقفين فقط. فكما يقول: “المشكلة تكمن في ثقافتنا السائدة. هذه الثقافة التي تعرقل عملية أن تكون القراءة فعل يومي وجزء من جوهر الوجود الإنساني”.ويتابع: “نتيجةً لهذا النقص يصار إلى الإعلان عن الاحتفاليات وعن يوم للكتاب وآخر للقراءة، بينما من المفترض أن تكون كل الأيام للقراءة، بمعنى أن تكون هذه القراءة وهذا الاطلاع والتطوير الذهني والمعرفي جزء من الوجود اليومي للذات البشرية التي تتميز عن بقية مخلوقات الله بالثقافة”.
اليوم، يمارس ثائر ديب دوره كمثقف يؤمن بحق الشعب السوري في تقرير مصيره والتعبير عن تطلعاته وامتلاك حريته، وهو الذي أمضى سنوات من التعذيب في معتقلات النظام بسبب آرائه الفكرية والسياسية، حتى يكاد مجموع سنوات الاعتقال التي قضاها وأفراد من عائلته بسبب انتمائهم إلى المعارضة يبلغ القرن الكامل.ولدىالسؤال عن تفاصيل هذا الدور،يجيب: “أعيش كما ينبغي لمثقف وطني ديمقراطي أن يعيش. مع شعبي أولاً. ومع الحركة الوطنية الديمقراطية واليسارية التي أنتمي إليها، ثانياً”.
وهو، رغم التفاؤل والأمل بسوريا حرة جديدة، يتخوّف من بعض ما قد يعيق الحراك الثوري ويطيل نزيف الدمّ السوري، يقول: “أنا قلق من تعقيدات الوضع السوري الداخلية والإقليمية والدولية. أما المثقفون فهم منقسمون ومتعددون تعدد الثقافة ذاتها. وبخلاف ما نحسب فإن الثقافة ليست واحدة ولا المثقفون من نوع واحد. ثمة مثقف سلطوي ومثقف طائفي كما أنّ هنالك مثقف نقدي ومثقف وطني ديمقراطي….”.
إلى جانب هذا، فإنّ ثائر ديب يحذّر من هدر الثقافة بحجة الثورة، الأمر الذي يتجلّى في مواقف كثيرة، منها علوّ “الزعيق” الثوري المعادي للثقافة، والمسارعة إلى تقييم أعمال الكتّاب والمفكرين بحسب مواقفهم الآنية. يقول: “أكثر ما يزعجني أن يحكم بعضهم على نتاج الكتّاب والأكاديميين بحسب مواقفهم الآن مع إهمال كل إنجازتهم في الماضي والتي لازالت مستمرة حتى اليوم. وكأنّ اللحظة الحالية هي التاريخ كلّه. في حين يتم تقديس صحفيين متوسطي الجودة وكتّاب رديئين لمجرد زعيقهم “الثوري” على صفحات الجرائد والفيسبوك”.
ومن أجل مستقبل جميل تستحقه سوريا وشعبها الملحمي، لم يكفّ ثائر ديب عن التأكيد على ضرورة مواصلة هذا الشعب ثورته، بعيداً عن المبادرة إلى العنف، وبعيداً عن الطائفية، والأجندات المشبوهة. كما لم يكفّ عندعوة المعارضة السورية، خاصةً القوى الوطنية الديمقراطية واليسارية إلى تحمّل مسؤولياتها في التعبير البرنامجي عنمعاناة الشعب السوري ومطالبه، وفي تقديم ممارسات ورؤى تعمل على ما يدعوه “فكّ عثرات انتفاضة الشعب السوري”، فلا تترك بين أنياب النظام ولا في مخالب المتربّصين.