ثقافة قعر الهاوية
حسام عيتاني
يلاحظ أمين معلوف ان نقصاً في ثقافة الرئيس جمال عبدالناصر السياسية، الى جانب المزاج الشخصي، حالا دون دفعه بمصر وبمجمل المنطقة في طريق المزيد من الديموقراطية ونحو السلام والتطور.
لا تغيب عن بال معلوف في كتابه الصادر قبل أعوام «اختلال العالم»، في إطار مقارنته بين الاشارات التي اطلقها زعيم حركة التحرر في جنوب افريقيا نلسون مانديلا عقب خروجه من سجنه نحو المصالحة وطي صفحة الثأر والعنف، وبين تلك التي اعتمدها عبد الناصر حيال معارضيه من سجن وتنكيل، الفوارق الكبيرة في الظروف التي احاطت بالرجلين وعصريهما ومجتمعيهما. بيد ان الظروف الذاتية وهي هنا ضآلة ثقافة عبد الناصر التاريخية والخلقية – وفق معلوف – تسير يداً بيد مع الظروف الموضوعية في العمل على تدمير التجربة الناصرية.
والإحالة الى العدة الثقافية والمعرفية التي يحملها سياسيونا اليوم تبدو شديدة الالحاح، أمام ظواهر مفجعة لا تشكل الصدامات المسلحة، كتلك التي وقعت في صيدا أمس الأول، سوى قمتها الظاهرة للعيان. لقد غاب عن الانتباه طويلاً السؤال عن هوية هؤلاء السياسيين القادرين على مخاطبة أدنى الغرائز وأحطّها والباحثين عن مواقعهم على حساب دماء جمهورهم قبل الجمهور المقابل. الهوية ليس بمعنى الحسب والنسب، بل بمعنى الانتماء الى مرجعية اخلاقية وثقافية وفكرية.
ولم يعد اللبنانيون يلقون بالاً لما يتجاوز خطاب العصبية واللُحمة الأهلية. لم يعودوا منتبهين الى ركاكة بل سخف الخلفيات التي يأتي منها سياسيو هذا الزمن القميء وهزال مداركهم وتجاربهم واحتكاكهم بالعالم ومعرفة قوانينه وروحه.
بات علينا ان نصغي، بسبب وسائل اعلام جماهيرية يتنافس القائمون عليها في التفاهة مع السياسيين، الى النقل المباشر لخطابات الكراهية والظلام والموت. الى الخواء مجسداً في كلمات تُقذف بين اطفالنا ليلوكوها كحقائق مقدسة ويتباروا بتكرارها في ساحات المدارس. الى أكاذيب تغطي حقائق التاريخ القديم والحديث. وإلى انتصارات لم تكن إلا أوهاماً في عقول اصحابها.
بات علينا ان نرى في مجموعة من الموتورين، قادة ملهمين قادرين على تغيير مسار التاريخ بإشارة من أصابعهم. يستمدون قراراتهم ليس من أي حسابات عقلانية تستند الى تحليل ملموس للواقع الملموس، بل الى ايحاءات من الغيب وأبطاله وقديسيه.
كل هذا لا يتعارض مع الظروف المحيطة. بل ان السياسيين هؤلاء الذين جاءوا عن طريقي التوريث و»العصامية» يبدون كل بضع سنوات أسوأ من جيل سابقيهم. فهم نتيجة انهيار التعليم المدرسي والجامعي في لبنان وسيطرة الطوائف عليه. وهم ابناء انغلاق الغيتوات الجهوية والعشائرية على ذاتها اثناء الحرب الأهلية. وهم ثمرة تسطيح الإعلام وتسليع الفنون وتسخيف الفكر. ومن أسف أن الاجيال الشابة تشرب من ذات المعين وتروي عطشها الطبيعي الى المعرفة من مناهل مسممة.
صار الاستمرار في الاصغاء الى التحريض المذهبي والطائفي الرخيص مكلفاً جداً. لم تعد ظواهر مثل أحمد الأسير والجماعات المسلحة في طرابلس ونظرائهم في الطوائف الأخرى، والذين لا يقلون سوءاً عنهم حتى لو رفعوا ما شاءوا من شعارات، سوى علامات على استحالة العيش ضمن الوحدة الوطنية اللبنانية القائمة وضرورة الانصراف الجدي الى البحث في صيغ جديدة للنظام السياسي اللبناني.
ولا مفر من القول ان البحث عن حلول لمشكلات النظام اللبناني اليوم وقبل سقوط النظام السوري، أخف ضرراً على اللبنانيين من محاولة ترميم كيانهم تحت النار. ويبقى السؤال المقلق: بأي ثقافة سيستعين مواطنونا عندما يبحثون عن تسوية تحول دون اقتتالهم؟
الحياة