ثلاثة مفاتيح لحلّ الأزمة الطائفيّة والدّينيّة
محمود حسن
المفتاح الأوّل
حقّ الوجود والحياة:
النّزاع الماثل للعيان بين الطّوائف الإسلاميّة في العالم الإسلامي، ليس نزاعاً دينياًّ وإن بدا في الظاهر أنّه كذلك. فالقرآن الكريم الذي هو المرجع الدّيني الأوّل والأقدس عند المسلمين ينصّ صراحة وبشكل غير قابل لسوء الفهم أو التّفسير، أنّ الله تعالى أعطى الإنسان حريّة الاعتقاد، فإن شاء آمن، وإن شاء كفر. نجد هذا المعنى الصّريح في أكثر من آية قرآنية نورد منها هذه الآيات:
“لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم” (البقرة:256).
“إنّا هديناه السّبيل إمّا شاكراً وإمّا كفورا” (الإنسان:3)
“قل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظّالمين ناراً أحاط بهم سرادقها”(الكهف:29).
مثل هذه النّصوص القرآنيّة تعطي شرعيّة الوجود والحياة لكلّ الانتماءات الدينيّة في العالم، مهما كان نوعها، وتصنيفنا لها. سواء كانت ديانات سماويّة أو وضعيّة. توحيديّة أو إشراكيّة. لا فرق، فالقرآن ساوى بينها جميعاً بحقّ الوجود. وهذه الشّرعية تطال حتى الملحدين الذين لا يؤمنون بوجود الله تعالى.
فإذا منح القرآن الكريم المُلْحِدْ حقّ الوجود والحياة، أفلا يمنحها لمن يؤمن بالله الواحد الأحد؟ بحسب معرفتي بالطوائف الإسلاميّة لا يوجد بينها من لا تؤمن بوحدانية الله تعالى. وفي حديث للرّسول (ص) يقول فيه: “من قال لا إله إلا الله صدقاً من قلبه دخل الجنّة”. فالتّوحيد هو العمود الفقري للإسلام.
انطلاقاً من هذه الرّؤية القرآنيّة للحريّة الدينيّة يمكن أن تتعايش بأمان جميع الطوائف في المجتمعات الإسلاميّة دون حرج أو خوف.
ونفترض جدلاً أن بعض تلك الطوائف قد خرجت من ملّة الإسلام كما يزعم البعض. فإنّ هذا الخروج لا يُفقدها حق الوجود والحياة. لأنّنا وإنْ سحبنا من طائفة ما الجنسية الإسلاميّة جوراً أو عدلاً، فإنّنا لا نتجرّأ على أن نسحب منها الجنسية الإنسانيذة التي بموجبها أعطانا الله تعالى حقّ التديّن وحقّ الاعتقاد. وسواء أقبلنا هذه الطائفة في الإسلام أو لم نقبلها فأنّها في كلا الحالتين تتمتّع بحق الوجود والحياة.
المفتاح الثاني:
لمن الخلاص؟ ومن يملك جواز السّفر إلى الجنّة؟
يظنّ أتباع كل دين بأنّهم الوحيدون الذين سيدخلون الجنّة، وما تبقى من النّاس الذين ليسوا على دينهم وملّتهم فمأواهم النّار خالدين فيها وبئس المصير. هذا الاعتقاد سارٍ بين أتباع كلّ الأديان بما فيهم المسلمين. إلا أنّ الله تعالى لم يقل ذلك. والقرآن الكريم يؤكّد في الآيات، أنّ الخلاص يوم القيامة ودخول الجنّة مشروط بثلاثة شروط هي:
الإيمان بالله تعالى، ويوم القيامة، والعمل الصالح.
والانحراف التأويلي الذي وقع لكلمات الله تعالى من قبل البشر يأتي عندما تقوم كلّ أمّة من أمم الأرض باحتكار صفة الإيمان لنفسها، وتعطي صفة الكفر للأمم الأخرى. وتدّعي كلّ أمّة بأنّها الأمّة الناجية في اليوم الآخر!
لكن هذا ظنّ الناّس، أمّا الله تعالى فيقول في القرآن الكريم:
“إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 62 )
فالآية واضحة جداً في معناها من أنّ الخلاص يوم القيامة ليست حكراً لأمة بعينها، وإنّما هو متاح لجميع الأمم، وكافة الخلق بالشروط الثلاثة المذكورة في الآية. ومن هنا ليست هناك أفضلية لأمة على أخرى، ولا لعرق على آخر، إلا بمقدار الإيمان بالله والعمل الصالح. وفي الحديث القدسي: “الخلق كلّهم عيال الله، وأحبّهم إلى الله أحسنهم لعياله” معنى مؤيد للآية القرآنية.
المفتاح الثالث:
فصل الدين عن السياسة:
هناك فرق بين فصل الدّين عن الدّولة، وفصل الدّين عن السّياسة. لأنّ الدولة شيء مختلف عن السياسة. ولا ينبغي لنا أن نُساوي بين الدولة والسياسة. فالدولة مجموعة مؤسسات تعمل وفق دستور يمثل الشعب بكافة مكوناته الحضارية والدينية والطائفية والقومية والاقتصادية والثقافية. والدولة في فلسفة العقد الاجتماعي تنشأ بتنازل الشعب عن سلطاته الفردية الكثيرة لجهة واحدة تصب فيها كلّ السلطات. وهذه الجهة ليست شخصاً، ولا مؤسسة، ولا حزب. بل هي الدستور. ولا يُعقل أنّ نفسر تنازل الناس عن سلطاتهم للدستور بأنّه تنازل عن حقوقهم الدينية أو القومية. مثل هذا التفسير لم يرد في أيّ من فلسفات العقد الاجتماعي. وكما للدولة مؤسسات اقتصادية وسياسية وثقافية ترعى شؤون الشعب، ينبغي أن يكون لها مؤسسات دينية أيضاً تهتم بالأمور الدينية للمجتمع.
أمّا السياسة فهي الجهة التي تشرف على إدارة مؤسسات الدولة، وتطبيق الدستور. وهذا التمييز بين الدولة والسياسة أمر ضروري حتى لا يظن أيّ حزب، أو أيّة أكثرية في المجتمع، أو أقليّة، عند وصولها إلى الحكم أنّها قد امتلكت الدّولة لنفسها. ولا يعني حصولها على أغلبية الأصوات بطريقة ديمقراطية أنّها باتت حرّة في التصرف بالدولة ومؤسساتها ودستورها كما تشاء.
والدّعوة لفصل الدّين عن الدّولة ينبغي أن تُصحّح، وتُستبدل بالدعوة لفصل الدّين عن السّياسة. وإذا ما تمكّنا من إعادة أواصر العلاقة بين الدّين والدّولة من جهة، وفصل الدّين عن السّياسة من جهة ثانية، فإنّنا نُعطي الشّعوب انتماء أقوى لدولهم ومجتمعاتهم، بحيث تشعر جميع المكونات الاجتماعيّة والطائفيّة والدينيّة والقوميّة بأنّ هذه الدولة ملك لها، بغض النظر عن كونها أقليّة أو أكثريّة، وبغض النّظر عن هويّة من يستلم الحكم، ويعتلي العرش. فالدولة للجميع، أمّا الحكم فهو ساحة تنافس سياسية بين الأحزاب والتيارات السياسية.
وفصل الدّين عن السياسة يستهدف في المقام الأوّل الحفاظ على الدّين والمكوّن الدّيني بعيداً عن اللّعبة السياسيّة. فما هو واضح أنّ الأحزاب السياسيّة في كثير من دول العالم الإسلامي تستغل الهويات الدينية والانتماءات الطائفيّة في كسب المعركة السياسيّة ضدّ خصومهم. فالحزب المنتصر يلعب على وتر الانتماء الديني للأغلبية، والحزب المهزوم أو المعارض يلعب على وتر المشاعر الدينية للأقلية. وهكذا يتم زجّ المقدّس الديني في مستنقع المصالح السياسية، وتصبح الدّعاية السياسيّة للأحزاب دعاية دينيّة تُحرّض على الكراهية والخوف والتّكفير.
ويسعى كلّ طرف إلى التّشهير بمقدّسات الطّرف المنافس عبر نبش التاريخ والتقاط أمثلة تبرهن على شيْطانيّة الآخر. وبالنّتيجة يتمزّق المجتمع وجدانياً، ويضعف العقد الاجتماعي بين مكوناته، وينقلب الاصطفاف الشعبي إلى اصطفاف طائفي وديني وقومي، ويتحوّل التنافس على الحكم وخدمة المجتمع إلى تسابق على الانقضاض على الدولة واحتكارها باسم الأغلبية الديمقراطية!
حالما نصوغ عقد اجتماعي موزون، يُفرز دستوراً بالإجماع لا بالأغلبية، وتكون فيه الدولة أمّاً لجميع المكونات، وعلى رأسها المكون الديني، بعيداً عن مفاهيم الأقلية والأكثرية، ويحفظ الدين بعيداً عن السياسة ولاعبيها، سيتبعثر الاصطفاف الطائفي، وينطفئ الاحتقان الديني، وسيبحث الناس بشوقٍ ولوعةٍ في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم عن مبررات الاندماج وثقافة التعايش.
موقع الآوان