ثلاث سنوات عجاف/ هنادي زرقه
لطالما ربّينا الأغاني وتناقلناها جيلاً إثر جيل، وحلمنا باليوم الذي نطلقها فيه من أفواهنا كالحمام. وأتى هذا اليوم الذي تعالت فيه صيحات:
«واحد… واحد… الشعب السوري واحد»
«الله… سورية… حرية وبسّ»
بهذه العبارات ـ التي تؤكد وحدة الشعب السوري ومطلبه العادل بالحرية، وولاءه المطلق لسوريته ونزعه القداسة عن أي شخص وإسباغها على البلد الحرّ إلى جانب الإله ـ هتفت حناجر الشباب السوري قبل ثلاث سنوات، بعدما كادت النخب السياسية والثقافية تفقد الأمل في أي نأمة تدبّ في الجسد الذي طال هموده، فما بالك بالاندفاعات الزلزالية التي أخذت تندلع في بلاد عربية عدة قبل أن تصل شرارتها إلى سوريا. كان في الذهن أن بنية سوريا، بما فيها النظام نفسه، غير قابلة للتغيير. وما لبثت هذه النخب ذاتها التي هاجمت في مقالات عدة ترييف المدن، أن هلّلت لاندلاع الاحتجاجات في أرياف سوريا وضواحيها، معتبرةً أنَّ أهمّ ما يميز هذه الاحتجاجات هو أن لا حامل سياسياً لها، ولا مرجعية حزبية تقودها من أي طرف كان. واكتفت هذه النخب بمراقبة الشارع والتصفيق له عن بعد، من دون الانخراط به، ومن دون توجيه أيّ نقدٍ لمسار احتجاجاته، ليخضع هذا الشارع في النهاية لتجاذبات دينية، وإقليمية ودولية لم تلبث أن فرضت شروطها، ونقلت الحراك من الطابع السلمي إلى المسلح.
قلة قليلة من النخب الثقافية والسياسية انتقدت دخول السلاح وأسلمة الحراك، وقوبلت هذه المجموعة بهجوم شديد من أقطاب المعارضة، وذهب بعضهم إلى تخوينها وتطييفها واتهامها بعمالة النظام. فيما عمد بعض السياسيين وسجناء الرأي السابقين والمثقفين اليساريين إلى مباركة السلاح، وذهبوا أبعد من ذلك، فطالبوا الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ـ ومؤخّراً إسرائيل ـ بالتدخل العسكري، حجّتهم في ذلك أنّ السلاح وحده قادر على هزيمة النظام. ولم يحيدوا عن موقفهم الداعم للسلاح، رغم الإخفاقات المتتالية التي مُنوا بها، ولم يثنِهم عن رأيهم شلال الدم الذي ما زال متدفقاً، ولم يتوقفوا، في الوقت نفسه، عن المتاجرة بهذا الدم وبيع الأوهام للشارع. وطبيعيٌ أن هذا السلاح لم يجلب، بعد مضي ثلاث سنوات، إلا مزيداً من القتل والدمار والخراب لكل مدينة رفع أبناؤها السلاح بغية «تحريرها»، وانتهى «التحرير» بتدمير البنية التحتية للدولة ومؤسساتها وتهجير الناس، وكأن هذه المؤسسات ملك لنظام بعينه أو أسرة بحالها! ولم يفلح أيُّ طرف، إلى الآن، في تحقيق حسم عسكري في أيِّ منطقة. ومؤشر الخراب هو ازدياد عدد الفارّين من هذه المناطق «المحررة» إلى مناطق سيطرة النظام، إذ تصل أعدادهم إلى مئات الآلاف، هؤلاء المهجّرون الذين يفترشون الحدائق والشوارع والأرصفة أمام مراكز الإغاثة.
ما الذي يجعل هؤلاء المهجّرين ينتظرون ساعات طويلة أمام هذه المراكز بغية الحصول على سلة غذائية أو غطاء، ملتصقين بعضهم ببعض كموجة سوداء تمور ذات اليمين وذات الشمال وتهدر بأصوات التوسل والاستجداء، بنحيب فجائعي تزداد حدّته وتهبط كلما اقترب منهم متطوع الإغاثة أو ابتعد عنهم؟ لمَ لا يهجمون على هذا المركز ويحطمونه بمن فيه ويحصلون على ما يريدون؟ ألم تكسر الثورة حاجز الخوف؟
ربما خرج هؤلاء الأشخاص أنفسهم في تظاهرات سلمية في بداية الحراك، وواجهوا الرصاص بصدورهم العارية، ربما كانت السماء تحتفظ برَجْع أصواتهم المطالبة بالحرية، ما الذي تغير في نفوسهم ولمَ باتوا أكثر خوفاً واستلاباً؟ ماذا عن الأطفال الذين فقدوا أي معيل، كما فقدوا الأمن والأمان في أي منطقة يقصدونها؟ من المسؤول عن إيوائهم، ماذا فعلت لهم الثورة؟ لمَ تخلّت عنهم؟ هؤلاء الذين باتوا بلا مدارس ولا مأوى، وتوقف الزمن عندهم لحظة تهجيرهم، من يفكر بهم؟ أين منهم من مقولة «الشعب السوري ما بينذل»؟
بعد أعوام ثلاثة
بعد أعوام ثلاثة، يبدو المشهد السوري مختصراً في المدن التي يبسط عليها النظام سيطرته بمجسم لبسطار عسكري ضخم مليء بالزهور الحمراء في مداخل هذه المدن، إذ استبدلوا التماثيل بهذا المجسم، وبنايات وواجهات متاجر مطلية بعلم البلاد ذي النجمتين الخضراوين. أما في المناطق «المحررة» فاللافتات سود و«الآرمات» كبيرة مطلية بالأسود ومخطوط عليها اسم الولاية أو الإمارة. هل هذا فعلاً ما خرج السوريون لأجله منذ ثلاث سنوات؟ هل خرج ليجترح أصناماً جديدةً؟ كأن هتاف «واحد… واحد… الشعب السوري واحد» قد انحصر بمفهوم التبعية والأيقنة، واختيار أسوأ الاستبدادين، واندثرت مفاهيم الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة وإلغاء قانون الطوارئ وإقامة الدولة المدنية ليشغل محلّها قانون الولاية والهيئة الشرعية وتقديس البسطار. إذ قُتِل وهجِّر وخُوِّن من خرج لينادي بهذه المطالب. والذين يقودون المعارك الآن يريدون العودة بسوريا 1400 عام ليصادروا الحريات ويؤسسوا الإمارات الإسلامية والهيئات الشرعية، ألهذا قُتِل مَن قُتِل واعتُقِل مَن اعتُقل؟ ما الذي يريده نظام أكثر من معارضة كهذه؟ طائفية وإقصائية!
هذه الصورة القاتمة التي تهيمن على المشهد السوري برمّته، ربما كانت أحد الأسباب وراء تمسّك كثيرين بالنظام وإصرارهم على أنه الحامي الوحيد الذي يرسل جيشه إلى الموت في المناطق النائية من البلاد بغية تحريرها من «إرهاب» الجماعات التكفيرية، كما يرسل طائراته، فضلاً عن كونه راعي العلمانية والمدنية وحامي الأقليات التي لا توفر الفصائل المسلحة أي فرصة لمهاجمتهم وترويعهم.
بعد ثلاثة أعوام، لا يزال قسم كبير من المعارضة يدعو إلى الحرب إلى أن يموت آخر سوري مقيم داخل البلاد، بينما يقبعون في فنادقهم، ينادون بتحرير السوريين الآخرين. والعجيب أن هؤلاء لا يخطر ببالهم ولا ببال أولادهم من الشباب الفارين من الجندية أن يأتوا إلى المناطق «المحررة» الكثيرة الواقعة تحت سيطرة المعارضة فيقيموا ويعملوا فيها. ما الذي يخيفهم؟ أليس هذا ما كانوا يحلمون به؟
لم تظهر أي منطقة من هذه المناطق قدرة على التنظيم والاستقلال بل إنها لم تشهد حالة مدنية واحدة، فيما بقيت مؤسسات الدولة، في المناطق التي يسيطر عليها النظام، تدفع المعاشات وتؤمن العلاج المجاني في مستشفياتها، وما زال التعليم مستمراً، حتى في بعض المدن الساخنة، كحلب مثلاً. وربما كان هذا، أيضاً، أحد أسباب اليأس الكثيرة التي حدت بالسوريين الآخرين، متذرعين بخوفهم من الآخر، إلى تقديس البسطار.
أسئلة كثيرة يمكن أن تخطر في بال أي مراقب عابر لما يحدث في سوريا. يا لبؤس الخيارات المطروحة أمام السوري: بسطار أم إمارة إسلامية؟!
ربما كان نفقاً طويلاً مظلماً ما يمرّ به السوريون، ومرحلة تخبط وعماء شديدين، لكن السوري الذي خرج ليحطم أصنامه قبل أعوام ثلاثة، سيكسر الأصنام كلها، ولن يعيد سوريا إلى أي من التبعيات الآنفة الذكر، سينهض من هذا الركام لينفض عفنهم جميعاً، ويبني سوريا المدنية المتعددة، سوريا واحدة لكل أبنائها، مهما مرّ عليها من جحافل وجيوش بربرية، وسيعود الشعب السوري واحدا… واحدا رغم أنف المتقاتلين جميعهم ورغم أنف المثقفين الطائفيين الذين كانوا مختبئين في ما بيننا.
(كاتبة سورية)
السفير