صفحات العالم

ثمن الطغيان… الحالة السورية نموذجا


محمد جميل أحمد

من أهم صفات الدكتاتور أنه لا يوفر أدنى حساسية تدل على مطلق علاقة إنسانية بمن يحكمهم. وحين يحاول ذلك تأتي عباراته أكثر إحراجا لموقفه، وأعمق دلالة على الفصام الذي أوغل فيه. فحين صرح الطاغية بشار الأسد قبل يومين للقناة الألمانية بأن سبب بقاءه على السلطة هو رغبة شعبه، استدرك فجأة بأن هناك جزء من شعبه (يقصد الشبيحة) يؤيده وأن ليس المهم هو نسبة التأييد، بل المهم هو مطلق التأييد مهما كانت النسبة والأرقام ؛ فذلك ما هو كاف لبقائه في السلطة ؟! ربما كان الأمر الطريف في هذا ــ إذا كانت هناك طرافة أصلا ــ أن الديكتاتور يقول مثل هذا الكلام فقط لأنه أمام وسيلة إعلامية ديمقراطية غربية!

إذا كان مطلق التأييد (ومطلق التأييد هنا ــ حسب قواعد المنطق ــ نقيض التأييد المطلق) هو سبب بقائه في السلطة كما يزعم بشار فما فائدة الانتخابات أصلا ؟ وكيف يمكن لمن يستند على مطلق عدد غير معلوم أن يجعل من ذلك مبررا لوجوده على السلطة ليمارس القتل المطلق على الأبرياء من أبناء الشعب لقاء حقهم الطبيعي في الاعتراض عليه سلميا؟. هنا تحديدا تتكشف لنا الرغبة السينيكية المعتوهة للديكتاتور فيفضح نفسه أكثر، وينكشف عاريا أمام الجميع فيما هو يحسب دفاعه ذاك علامة على حجته المتهافتة.

الانفصام عن الواقع يجعل من الدكتاتور كائنا معتوها يسبب الأذى بأبلغ أنواع الإساءة وأشدها قرفا واستفزازا للشعب. ذلك أنه فيما يعلم الجميع القتل الهستيري المتنقل لعصاباته المجرمة والدم الذي يسيل يوميا أمام شاشات التلفزة العالمية يخرج الديكتاتور بصفاقة لا يحسد عليها ليقول أنه باق بأمر شعبه ورضاه ؟!  مثل هذه التصريحات هي أيضا بمثابة أذى معنوي مضاف للأذى الجسدي الممض ولا يمكن أن تبشر بأي خير، أو أدنى أمل في أن يكف الوحش عن القتل.  وهنا سنجد أن مقاربات السياسة التي يقودها كوفي عنان تجد ترجمة بليغة لفشلها الذريع أمام تصريح كالذي صرح به بشار للقناة الألمانية.

فالرجل حين يرى نفسه محبوبا بين شعبه فيما وصل عدد القتلى بأمر عصاباته إلى أكثر من 15ألف قتيل قتلوا بأمره ؛ سنجد أنفسنا أمام كائن معتوه بامتياز ؛ كائن لم يمسخه فقط ذلك الانفصام عن الواقع فحسب ؛ بل وكذلك إحساس بألوهية من طينة الدجال. وإلا كيف يمكننا أن نرى ونسمع أقوالا صريحة أثناء تعذيب المواطنين على أيدي شبيحة يطالبونهم أن يعترفوا بأن بشار (ربهم) ـــ تعالى الله عن هذا المسخ علوا عظيما ــ دون أن يطلب هذا الديكتاتور أمام وسائل الإعلام ــ ولو من باب الحياء العام ــ  الكف عن نعته بالرب من طرف (شبيحته). فلا شك أبدا في أنه رأى وسمع مثل هذه العبارات من شبيحته لأن الأمر لا يحتاج أكثر من فتح التلفاز أمام قناة العربية أو الجزيرة أو حتى مشاهدة اليوتيوب، ولكنه في حقيقة الأمر يجد في ذلك النعت ما يتماهى مع حالة العته الألوهي الكاذب الذي بلغ منه مبلغا عظيما ولهذا يصمت عن ذلك ويستمتع به.

صحيح أنه لو طلب الكف عن نعته بالرب ربما يكون ذلك ضربا من اعترافه بتلك الأعمال ؛ لكن في المقابل إن هذه الجرأة التي تصل إلى وصفه بوصف الرب ؛ بالإمكان التعبير عن رفضها بأكثر من طريقة إذا أراد ذلك.

وإذا جاز لنا أن نتأمل في كمية القتل والدم الذي سال لقاء طلب الشعب من الطاغية أن يرحل ــ وهي حالة سياسية إنسانية يمكن أن تحدث بصورة سلمية دون أن تحتاج إلى ذلك الكم الهائل من الدماء والأرواح، حدثت في مصر وحدثت في تونس سنجد أنفسنا أمام واقع يتجاوز حدود تلك الحالة السياسية والإنسانية ؛ ويعكس حالة ذهنية عامة في تصور العلاقة بين الحاكم والمحكوم تستند إلى تاريخ ضارب في القدم جسد تلك العلاقة بينهما كما لو كانت علاقة بين الخالق والمخلوق. وما يحدث في الثورة السورية الآن على خلفية هذا الكم الهائل من سيلان الدماء وإزهاق الأرواح ليس مجرد الخروج من علاقة حاكم بمحكوم، بل هو بمثابة خروج من تلك العلاقة من المستوى الذي جعل منها حالة مستعصية نتيجة لذلك التصور الذي يتخيل الحاكم نفسه كما لو كان إلاها وكما لو كان الشعب كائنات مخلوقة له  ما يحدث في سوريا الآن هو تصفية مركبة وطويلة المدى لذلك الطاغوت التاريخي ليس فقط في مستوى الواقع المادي فحسب، بل وكذلك في مستوى المشاعر المتبادلة بين الطرفين.

 فحين يقول الطاغية بشار أنه باق في السلطة برضا شعبه وأمامه آلاف الجثث التي أزهقت أرواحها بأمره سنجد أنفسنا بالضرورة أمام عاهل للموت من العصور الوسطى ــ شئنا أم أبينا ــ ما يعني في اللحظة نفسها أن الشعب السوري هو الذي قرر أن يتخلص من تلك الحالة التي تساكن معها لقرون طويلة. وبلغت ذروتها في العقود الأخيرة منذ استيلاء الأسد الأب على الحكم ووراثة الطاغية لأبيه، بصورة بدت تماما أنها ضرب من مساكنة الوحوش.

صحيح أن سيلان الدم العنيف والبشاعة الصادمة للضمير الإنساني عبر مشاهد جثث الأطفال المحروقة والتمثيل بالضحايا ودفن بعضهم أحياء والواقع السريالي للعيش مع الموت في أبشع صور العنف التي ملأت سوريا جعلت كثيرا من المتابعين لمسار الثورة السورية يبدون خوفا مشروعا من ردود الأفعال التي تنتج من انعكاس العنف على النسيج الاجتماعي والوطني في سوريا، ما قد يؤدي إلى حروب أهلية وتفسخ وفوضى ؛ لكن سنجد أيضا أن جزءا كبيرا مما يفسر لنا طبيعة العنف التي يمارسها النظام بتلك الطريقة القاتلة تأتَّي أصلا من خلفية تصور السلطة لنفسها نتيجة لحالات طويلة ومتمادية من الاستبداد والطغيان أصبحت مع مر القرون كما لو كانت هي الأصل الطبيعي لتصور الأشياء. وقطعا أن الخروج من مثل هذه الحالة يقتضي ثمنا باهظا بطبيعة الحال.

وإذا تأملنا حالات الانتقال السياسي والثوري في التاريخ عبر أطوار مماثلة لأطوار الثورة السورية سنجد أن ثمن الانتقال السياسي والخروج من نفق الطغيان كان يمر بطرق امتلأت بالجثث والدماء حتى تم لها الاستقرار.

 رغم الحزن الذي لا يمكننا أن نتصور عمقه في نفوس ذوي ضحايا الثورة السورية وشهداءها، ورغم تعاطفنا معهم ؛ إلا أنه حين يصل التناقض إلى حدوده القصوى المؤدية إلى مثل هذا العنف والموت بحيث لا يجعل الدكتاتور أمام الشعب خيارا بين أن يعيش بكرامة وحرية وعدالة هي من أهم حقوقه بكلفة باهظة، أو أن يعيش مظلوما ومقهورا ومهانا إلى الأبد على طريقة شعار (الأسد إلى الأبد) ؛ فإن ما يضمن الحل الأمثل في النهاية هو مواصلة الطريق من أجل العيش بحرية وكرامة وعدالة حتى النهاية ؛ ففي النهاية لابد أن تنفجر التناقضات ــ كما انفجرت مع بداية الثورة في العام الماضي ــ وكل ما تفعله مساكنة مثل هذه الأنظمة البربرية مهما طالت مدتها أن تؤخر انفجار التناقضات عبر الثورة. لأن الإنسان السوي لا يتحَّمل العيش إلى الأبد تحت شروط المذلة والظلم والعبودية.

وإذا بدا أن طريق الوصول إلى هذه الحقوق المشروعة في الحرية والكرامة والعدالة باهظا ومكلفا وعسيرا إلى أقصى حدود الموت والدمار فلا شك أن ما يكمن وراء ذلك الثمن الباهظ ليس هو صعوبة تحقيق تلك الحقوق أو استحالة الوصول إليها ؛ وإنما السبب الحقيقي هو : فداحة ووطأة عصور الاستبداد والطغيان الطويل التي صورت للناس عبر قرون وعقود طويلة : أن مساكنة الوحوش يمكن أن تكون حالة طبيعية وبلا غرابة!؟

واليوم يدفع السوريون ـــ وستدفع كذلك بقية شعوب هذه المنطقة عاجلا أو آجلا ــ ثمن التصفية النهائية لذلك الاستبداد التاريخي متمثلا في مواجهة ــ أشبه بمواجهة العين للمخرز ــ لأبشع خلاصة عنيفة في ذلك الطغيان المتمثل في سلطة النظام البعثي. وما هو أكيد وحتمي ويقيني في مواجهة كهذه أن الشعب هو الذي سينتصر في النهاية فهذا هو درس التاريخ ؛ فيما ستذهب تلك الحثالة الحاكمة وربها الدجال إلى الجحيم عاجلا أم آجلا.

ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى