ثمن القنبلة/ ممدوح عزام
في المقدمة التي كتبها شارلز ريد لكتاب “فكرة التقدم” لـ ج. م. بيري. قال إن إيمان بيري بالمستقبل، “كان أملاً، أكثر منه قناعة”. كان بيري من أنصار هذه الفكرة، وقد رصد في كتابه هذا مواقف المفكّرين والفلاسفة في الثقافة الأوروبية منها، وبيّن أنهم جميعاً، تقريباً، كانوا منبهرين بالتقدّم العلمي والتقني الذي يسجله البشر، عصراً بعد آخر.
هذه أمور لم تناقشها الثقافة العربية عامة في أي عصر، بوصفها معضلة يمكن أن يقف عندها البشر متسائلين: هل تتقدّم البشرية حقّاً؟ في الظاهر، كان الجواب دائماً: نعم، من قبل الأكثرية، وهم يقصدون التطوّر. فيما كان قسم آخر يهتف لا؛ إذ إن التطوّر مفهوم علمي، لا يتضمن بالضرورة مسيراً مظفراً نحو الخير.
في الغالب، فإن هذا النهج يكاد ينطبق على أكثرية البشرية التي ترى بأم العين، في كل زمان ومكان، الجرائم، والمخازي، والحروب، والغزوات، التي يرتكبها البشر بعضهم ضد بعض، من أجل المصالح، من دون أن يردعهم أي وازع ديني، أو أخلاقي، أو فكري. وفي كل مذبحة، أو بعد كل مذبحة ـ إذ إن الغالبية من البشر تحبّ أن تتفرّج، أولاً، ثم يمكن أن تتملّص من المسؤولية، حين تتعرّف إلى القاتل ـ يمكن أن تصدر البيانات، أو يأتي الفلاسفة والمفكّرون ليقولوا كلماتهم بشأن المذابح.
هكذا، يكتب سارتر “عارنا في الجزائر” بعد أن “استفحل” أمر الاستعمار الفرنسي هناك، ويكتب مقدمة لكتاب فرانز فانون “معذبو الأرض” يوبّخ فيها أوروبا والأوروبيين على صمتهم، وتجاهلهم، ولا مبالاتهم، تجاه مأساة الشعب الجزائري في مواجهة المحتل. لا يمكننا إلا أن نحيي هذه الشجاعة الفكرية والأخلاقية. ولكن سارتر (وأوروبا) لم يرَ دماء الفلسطينيين والعرب بعد حرب حزيران.
كانت شفقته هذه المرة تتوسّل رضا الإسرائيليين وتنسى عذاب الفلسطينيين. وقد حدث مثل ذلك بعد مذبحة رواندا، وقد يحدث “بعد” المذبحة السورية. فهل تتقدّم البشرية هنا، أم تتراجع؟
والمفارقة هي أن عدداً من الناس سمّوا أنفسهم تقدميين، وهم الذين صنّفوا شرائح أخرى بأنها رجعية. لكن لم يثبت التقدميون يوماً أنهم يمكن أن يتخلّوا عن ثمن قنبلة، أو تكاليف شعار يكتب على لافتة، أو موضوع إنشاء مدحي يبجّل القادة، من أجل شراء الدواء لحماية الطفولة، أو من أجل زيادة معاشات عمّال النظافة.
لا تضمن فكرة التقدّم السعادة للبشرية، وهذا مسار عجيب فعلاً؛ إذ لا مناص من السير في ركاب العالم الذي نعيش فيه، ومن الأفضل لنا جميعا أن نؤمن بأن التقدّم “قد” يقدّم الخير لنا، وليس جديداً أن نقول إن الفكرة لا تتحمّل المسؤولية عن المجازر، بل هو الإنسان نفسه.
في فيلم “الساموراي الأخير” تظهر الفكرة مسلّحة بالمدافع، إنها تحاول أن تنجز مهمتها، ليس ضد الثقافة اليابانية عامة، بل ضد البراءة، والقيم الأخلاقية.
من الصعب إنكار أن البشرية تتقدّم معرفياً وعلمياً، ولكي تضمن ثمن القنبلة، فإنها تختار قادة من طراز بوتين وأوباما. عندئذ، يمكننا بالتأكيد أن نشكّك في تقدًمها الأخلاقي.
العربي الجديد