ثورات البين بين
محسن خضر *
لماذا نجحت ثورتا مصر وتونس في هدف كل منها المباشر وهو اسقاط النظام القائم، وتعثرت ثورات مماثلة في أقطار عربية أخرى، لا تزال تخوض معاركها المعلقة وفي مناخ ضبابي من الكر والفر؟ ربما تكمن الإجابة في طبيعة الدولة والنسيج الاجتماعي في كليهما. لا أنسى عبارة مفتاحية للمؤرخ اللبناني مسعود ضاهر أطلقها في تونس في معرض محاكمة الحقبة البورقيبية، ضمن جلسات ندوة نظمها مركز المؤرخ التونسي المعروف عبدالجليل التميمي قبل سنوات.
قال ضاهر إن الدولتين العربيتين الوحيدتين اللتين تمتلكان مقومات الدولة بحق هما مصر وتونس. لو ذهبنا مع تلك المقولة إلى آخرها فسنفهم لماذا نجحت ثورتا مصر وتونس في تحقيق ما لم تفلح في تحقيقه ثورات الربيع العربي الأخرى. تحيل انتاج الدلالة في العبارة إلى أن بلورة وتماسك النسيج المجتمعي، ورسوخ مقومات الدولة الحديثة جنبه هشاشة النسيج المجتمع العشائري والقبلي الهش الذي ينقص سلباً من وظيفة الدولة ويضعف تبلورها.
ثمة مثالان يحضراني حول الهشاشة المجتمعية المعرقلة لبروز وسيادة الدولة الحديثة. الأول عندما أقدم الحزب الحاكم في اليمن على تعيين 50 عسكرياً في سلك التدريس في جامعة صنعاء، ولعلها حدثت أثناء رئاسة الأديب العربي عبدالعزيز المقالح للجامعة، وهو يملك حق التصحيح والتوضيح إذا لم تكن الواقعة التي حدثت غالباً في نهاية التسعينات دقيقة. الواقعة الثانية حدثت في العراق خلال الثمانينات عندما منح الرئيس الراحل صدام حسين بقرار جمهوري شهادة الثانوية العامة لشاعر عراقي شاب من شعراء النظام كان متعثراً في دراسته، واسمه لؤي حقي على ما أذكر.
ثمة سمة مشتركة حاقت بثورتي مصر وتونس وهي تراجع الزخم الثوري، وبطء قرارات الحكومة الراهنة، وغلبة خطاب الإصلاح على خطاب التغيير الثوري الراديكالي، وغموض المواقف، واستمرار السياسات والرموز السابقة ضمن اللحظة الثورية المنتصرة. ثمة تفسيران لما سبق، الأول أن اصحاب التغيير الثوري لا يحكمون، بل يراقبون، ويحضرون إلى المشهد ثم ينصرفون، ناهيك عن غياب الرؤية والأيديولوجية البارزة والموحدة، إضافة إلى مرض التفتت والتشظي والانقسام إلى تكتلات وتحالفات فرعية، والانجرار إلى خطر التصعيد الطائفي بعد ظهور وصعود صوت وصورة الإسلاميين إلى المشهد، والاحتقان الطائفي العقيدي المتراكم من الماضي، وبخاصة بين الأقباط والمسلمين كما يحدث في مصر خصوصاً.
ستقع الثورتان العربيتان الأنجح في مصر وتونس في منطقة البين بين ردحاً من الزمـــان، وسيتقرر لاحقاً في ضوء صراع القوى مستـــقبلهما: امــا أن تتــحولا إلى قيادة التغيير العربي بحق، وتضعا بلديهما في مسار اطلاق دولة النهضة، وبلورة كيان تقدمي وعصري من خلال نموذج تنويري وحداثي، وصياغة عقد اجتماعي جديد يعيد للشعبين وجودهـــما بالواقع لا بالقوة كما هي الحال الآن، أو أن تتعثرا ويقفز عليهما المغامرون والأفاقون والمدعون، وتبقيا في الذاكرة العربية مجرد مصدر الهام وحدث تاريخي مزلزل لا أكثر.
فى مرحلة البين بيــن يتصــارع الــثوار والمتحــولون والعسكريون والبيروقراطيون والتكنوقراط والأفاقون. في مرحلة البين بين تتداخل حسابات ومصالح القوى المحلية والاقليمية والغربية.
في مرحلة البين بين يقف صانعو الثورة في الشارع بينما يحمل توكيل الحكم والإدارة والتفيذ وكلاء ووسطاء وشهود، سواء كانوا افراز عهد الاستبداد وتأميم إرادة الشعب، وبيع لحم الوطن للبطانة، أم كانوا من المخلصين الذين فاجأهم الحدث الكبير فانضموا للتغيير، وحسموا الامر بانحيازهم للثورة، وهناك أيضاً التكنوقراط والمثقف الموظف الذي يتعاون مع كل نظام وبلا عواطف أو تحيزات ويبيع خبراته ورأسماله الرمزي للجميع بلا فارق.
تظلل سحابة الغموض واللاحسم والأسرار مرحلة البين بين في مسار الثورات العربية، وأن يبقى السؤال مرفوعاً: إلى متى؟
* أكاديمي مصري