ثورات العرب 2011: آمال وآلام وإشارات خاصة
ثائر ديب
تعددت الآراء وتاهت في تحديد السبب الرئيس وراء ما اندلع في بلاد العرب من انتفاضات وحركات احتجاجية. فثمّة من وجد هذا السبب في زيادة النهب الإمبريالي، وثمّة من وجده في الطلب على الحريات، ورآه آخرون في الطلب على الكرامة، وغيرهم في الجوع والطلب على الخبز، كما يمكن لسواهم أن يروه في اليأس أو الأمل أو الوعي الثوري أو انكسار حاجز الخوف أو رغبة الانعتاق أو تفجّر الكبت…، دون أن ننسى ما تراه الأنظمة من أنّ هذا السبب يكمن في مؤامرات خارجية و/أو داخلية مُعّدَّة ومُخَطَّطَة.
بيد أنَّ وجهات النظر هذه تكتفي بالتركيز على هذا العامل أو ذاك من عوامل الانتفاض مغفلةً السبب الحقيقي، الذي ليس عنصراً بل علاقة، أو تبدّل في علاقة، وليس خارجياً بل داخليّ وجوهريّ، وليس نفسياً بحدّ ذاته أو اقتصاديّ، بل سياسيّ من طرازٍ رفيع. فسبب ما تشهده بلاد العرب من ثورات هو تبدّل العلاقة بين الحاكمين والمحكومين على نحوٍ لا يكتفي بأن يَحُول بين هذه العلاقة والجري على سابق عهدها، بل يفجّرها أيضاً فاتحاً أمامها احتمال نسفها برمّتها وإقامة علاقات جديدة. وبذلك، لا يكون ممكناً لعامل من العوامل مهما اشتدّ حضوره أن يُحدِثَ ثورةً ما لم يُفْضِ إلى تبدّل تلك العلاقة الذي هو أمر داخليّ تماماً وينتظم مختلف عوامل الثورة، ويؤدي تغييبه إلى العودة بعلم السياسة وفهم الثورة والتعامل معها قروناً إلى الوراء. ذلك أنَّ الثورة في الفهم الحديث للعالم تدخل في باب علم السياسة وليس في باب علم النفس أو الأخلاق، ولا تحضر مساهمة هذين البابين وسواهما في فهمها إلا على النحو الذي يؤطّره ويحدّده وينتظمه علم السياسة.
وما يتيحه مثل هذا التصور الأخير من فهمٍ لطبيعة الثورات العربية لا يمكن أن يُقاس من حيث عمقه ودقته وفائدته بالتصورات السابقة التي تفرد هذا العامل أو ذاك أو حتى هذه المجموعة من العوامل أو تلك. فمع مثل هذا التصور لسبب الثورة بوصفه تبدّلاً لعلاقة، نكون مباشرةً أمام ضرورة توصيف العلاقة القديمة ووجهة تحوّلها، وإزاء ضرورة تحليل طرفيها، حكّاماً ومحكومين، وتحالفات كلٍّ منهما، ومدى جذريتها، واختلاف هذه الجذرية باختلاف الفئات الاجتماعية المنضوية ومدى تبلورها السياسي، والدخول في المناطق التي يجري فيها تعبير الجماعات عن أنفسها، وممارستها السكون أو الانتفاض، وصياغتها سيناريوهات وبنى جنينية بديلة، وإقامتها توازناً متجدداً للقوى، فضلاً عن تناول عفويتها أو وعيها، وتكتيكاتها، و…، و…، الأمر الذي يفتح باب العلم بهذه الظاهرة ويدلف به إلى دقائق قد يكون ثمن إهمالها فادحاً بدل أن يغلقه على غنائيات حماسية لا تكاد تغني عن جوع.
والحال، إنَّ أزمة الدكتاتوريات هو الاسم الذي يعبّر عن تبدّل تلك العلاقة بين الحكّام العرب ومحكوميهم، حيث لم يعد بوسع تلك الدكتاتوريات إعادة إنتاج سيطرتها على النحو الذي يتيح لها أن تستمر على المنوال الذي سارت عليه وأن تُخْضِع شعوبها على الغرار السابق. ولم يعد ثمّة مجال إلا لزوالها بتغيير شكل الحكم على الأقل عبر تحول ديمقراطي لم يعد ثمّة مهرب منه، اللهم إلا بالفاشية أو الحرب الأهلية أو استجلاب التدخّل الخارجي. وهذا ما يكاد ينطبق فعلياً على جميع الدكتاتوريات العربية بما فيها تلك التي تخطّت مشكلة التوريث وإعادة إنتاج الدكتاتور، رأس النظام.
هذا ما لم يفهمه زين العابدين بن علي ولا حسني مبارك إلا بعد فوات الأوان. وهذا ما يبدو فهمه ممتنعاً بنيوياً على سواهما من الحكّام، إلى أن يثبت العكس. ولذلك تراهم يلجؤون في التصدي لما يواجهونه إلى دفاترهم القديمة: لقد سبق لهم أن أفلحوا في التصدي لمؤامرات خارجية، فلماذا لا يعتبرون ما يجري مؤامرة خارجية يمكنهم أن يعيدوا كرّة دحرها؟ ولقد سبق لهم أن صفّوا أحزاباً سياسية يمينية ويسارية بالسجن والقتل والنفي، فلماذا لا يروا ظلالاً لمثل هذه القوى وراء ما يشهدونه الآن فيستبشرون بالنصر؟ ولقد سبق لهم أن قمعوا مثقفين معنيين بالتغيير، فلماذا لا يرون في هؤلاء سبباً متجدداً لبليّتهم الجديدة؟ غير أنَّ هذا هو السراب بعينه، والأمر ليس أمر مؤامرة ولا أمر قوى قديمة محطمة ولا أمر مثقفين هرموا وهم ينتظرون هذه اللحظة التاريخية. وما يثب في وجوه الطغاة هو عقود القهر والعسف والقتل والنهب مما هو في حِجْرِهم هم أنفسهم. ما يثب في وجوههم عارياً وأعزل ولا سبيل إلى دحره هو قوة الشعب الذي قهروه وعسفوا به وقتلوه ونهبوه، قوة الشعب السائلة المائعة التي تتملّص ولا يمكن أن تُطَال. تسدّ عليها شارعاً فتنبق من غيره. تحاصرها في جامعٍ فتطلع من سواه. تسجنها فيزداد عدد المطالبين بها. تقتلها فتتوالد من جديد مزيداً من النسخ كأنك في فيلم من تلك الأفلام الرهيبة التي يطلع بها الحاسوب. قوة الشعب التي لا تملك زمامها أيّة قوة من قوى المعارضة إلا إذا أرادت وسمحت، فلا يمكن مفاوضة أحدٍ، أيّ أحد، على هجوعها قبل تحقيق مطالبها. بل إنَّ القوى القديمة غالباً ما كانت تقود تحركات جماهيرية لتحقيق مطالب إصلاحية، أما التحركات الجماهيرية التي لا قيادة سياسية فيكون لها مطلب واحد هو إسقاط النظام. يا لهذا المأزق المميت!
والمفارقة الغريبة، بل الأشدّ غرابة بين جميع المفارقات، هو أنَّ ما يردده الحاكم بعد الحاكم، من أنّ بلاده ليست كبلاد سابقه الذي سقط أو كاد، صحيح تماماً، إنّما على نحوٍ يعاكس ما يقصده ولا يكاد يفيده في شيء. فما هو مختلف ومتمايز هو الأنظمة وليس معاناة الشعوب التي تبدو واحدة. وإذا ما كان لكل شعب في كلّ بلد خصائص فريدة، كأن يتميّز شعب بموزاييك إثني/ديني/طائفي/مذهبي خاص به؛ فإنّ ذلك لا يعني أن لا يكون بلد هذا الشعب مرشحاً لأن يكون مركزاً لزلزال قد يغيّر وجه المنطقة برمتها. هكذا، قد تختلف الأنظمة من واحد يقيم مسافةً ما بين رأس النظام وأسرته وبين النظام ككلّ فيسهل انقلاب النظام على رأسه بدفعٍ من الثورة، إلى آخر يتطابق فيه هذان الطرفان أشدّ التطابق فيعسر التغيير ويرتفع مدّ الدماء. كما تختلف الأنظمة من واحد لا تتاح له موارد التعدد الإثني/الديني/الطائفي/المذهبي إلى آخر لديه هذه الموارد فيمكنه أن يلجأ، إذا استنفد الوسائل الأخرى، إلى حرف الصراع في مناحٍ إثنية/دينية/طائفية/مذهبية، مما يشكّل خطراً حقيقياً لا ينبغي أن يغيب عن البال، وهو خطر يزداد احتمالاً إن لم ينتبه إليه الشعب غير المسيس الفاعل على الأرض، ولم ينفع التاريخ الوطني لقوى المعارضة التقليدية في أن يدفعها لمحاولة منع النظام من اللجوء إليه.
ولا بدّ من القول إنَّ ثمّة عدداً من المخاطر الشبيهة تكاد، بمعنى ما، تقف في مكان بين الحقيقة والاختلاق، أو بين الواقع والتلفيق، مما يوجب إيضاحها وتناولها بالنقد. وأوّل هذه المخاطر/الاختلاقات هو زعم الطغاة العرب أنّ أنظمتهم هي السدّ المنيع في وجه المدّ الأصولي الفاشيّ الذي سيزحف على البلاد العربية بوصفه الاحتمال الوحيد إذا ما زالوا. وهو خطرٌ/اختلاق يتقاسمه، علاوةً على الأنظمة، ليبراليو الغرب وحكوماته وبعض سُذّج “العلمانيين” لدينا. غير أنَّ ما تكشفه الثورات العربية المتلاحقة هو أنَّ ما يزحف في أرجاء العالم العربي اليوم هو أفضل قيم الثورة الفرنسية. وبخلاف ما يقوله أصحاب هذا الاختلاق، فإنَّ هذه الثورات -مع أنَّ أحداً إلى الآن لا يستطيع أن يجزم بأنها سوف تسفر عن تغيّرات بنيوية في الاقتصاد والمجتمع- تتركّز من غير شكّ على قضايا علمانية مثل التغيير الديمقراطي، وحقوق الإنسان بما فيها حقوقه الاقتصادية، ومحاربة الفساد…إلخ. وإذا ما كانت بعض الشعارات الدينية تطفو على السطح لأسباب يتحمل وزرها قمع الأنظمة وتخلفها، فإنَّ التحول المزمع يبقى تحولاً من الدكتاتورية وخروجاً منها، فإلى أين يخرج المرء من الدكتاتورية؟ هل إلى دكتاتورية أخرى؟ وهل يظل مثل هذا اللون الديني طاغياً إذا ما أتيح التظاهر السلمي للجميع وتوقف القتل الذي يحشر غالبية قوى المجتمع الحيّة في بيوتها؟ وهل ينبغي أن يحول وجود قوى سياسية دينية الطابع وإمكانية حيازتها مكانة مهمة بعد الثورة دون التطلع إلى تحول ديمقراطي يتيح السياسة والصراع السياسي أمام الجميع. ثمّ إنَّ التيارات الإسلامية أو بقاياها، مع أنّها جزء هام من الانتفاضة، شأنها شأن عديد من التشكيلات السياسية السابقة، إلا أنها لا تقودها ولم تخلقها، بل هي فعل شعبيّ كاسح تدعمه قطاعات المجتمع كافّة. وعلى الرّغم من الخلافات التي ستبرز في المستقبل من غير شكّ، إلا أنَّ ما يهمّ الآن هو تلك الوحدة التي يظهرها الشعب كلّه إزاء الأنظمة والقوى الخارجية التي تدعمها ولا تتخلّى عنها إلا مرغمةً. ولعلّ الأخطر في الأمر، أنَّ إخفاق الثورة وبقاء الأنظمة، ولو مع بعض الجراحات التجميلية، سوف يولّد ردّة أصولية لا سابق لها، وليس ثمة سوى الثورة وقاءً منها.
والخطر/الاختلاق الثاني هو حزمةُ أوهامٍ وأكاذيب خطرة أشدّ الخطورة، لكن خطورتها الأكبر هي على مروّجيها من الأنظمة، نظراً لما تبديه الثورات العربية من عزم على الخلاص من أنظمتها المستبدّة الفاسدة، التي بات ثمن بقائها أفدح من أيّ ثمن آخر. ومفاد هذه الأكاذيب أنَّ زوال الأنظمة القائمة مرادفٌ للفوضى وعدم الاستقرار، والعجز عن إدارة الدولة، وحروب القبائل والطوائف التي لم تَغدُ جاهزةً بعد للحرية.
والحال، إنَّ الأمر المهمّ الذي كشفته الثورات العربية هو أنَّ تاريخاً من الاستبداد والفساد والتبعيّة حوّل هذه الأنظمة ورموزها من رجال سياسة إلى رجال عصابات وزعماء قبائل وعشائر وعوائل، لا يترددون في إشاعة الفوضى وبذر الخراب عامدين، بسحب قوات الشرطة وإطلاق المجرمين والبلطجية واستخدام المرتزقة والكتائب الخاصة وإثارة الفتن وارتكاب أشنع الجرائم وأحطّها بحق شعوبهم. هكذا ظهر النظام أو اللا-نظام، على أنه مصدر الفوضى ورأسها. وظهر شعار “إما النظام القائم أو الفوضى” على أنه كذب صفيق وحجّة ضد النظام ذاته، شأنه شأن الزعم أنّ ما من قوة منظمة لتستلم الحكم إذا ما مضى النظام ورأسه. فمن أطاح بمثل هذه القوى المنظّمة، وردّ المعارضة إلى مجرد زخرف هامشي تافه، هو النظام ذاته، الذي يتحمّل مسؤولية مثل هذا النقص، إن كان موجوداً حقيقةً، كما تتحمله معه تلك “المعارضات” الزائفة، على غرار ذلك المعارض التونسي الملتحق بالنظام ويرى أنَّ الدكتاتورية، والبنيان السياسي الذي لطالما عرفته تونس قد أدّى إلى وجود كل الأشخاص الفاعلين في الحزب الحاكم، ليبني على ذلك أن لا مجال للقطع مع هذا الحزب، لأنّ كلّ الناس القادرين على إدارة الحكم هم هناك.
واضحٌ أنّ الثورات العربية قد حسمت أمرها مع ما خلقته الأنظمة من حالة “أنت أو لا أحد”، كما يقول عنوان مسلسل مكسيكي سخيف اشتُهِر في المنطقة. وواضح أيضاً أننا أمام نوع من انقلاب السحر على الساحر، بفعل ترياق الثورة الذي يحوّل كل السموم السابقة إلى أدوات بيد الثائرين. فالبطش يغدو عامل ضعف لا عامل قوة. ومنفيّو الأنظمة من المثقفين المعارضين يغدون منظّرين للانتفاضة وناطقين باسمها. وخصخصة الدولة ونهبها وتحويلها إلى مزرعة خاصة للتوريث وشلّة رجال الأعمال المرتبطين بالنظام تؤدي إلى زوال القواعد الطبقية والاجتماعية والطائفية وسواها، مما يجعلها هشّة أمام جموع الشباب المرتبطين بشرائح واسعة متوسطة وعمالية.
أمّا القبلية والجهوية والطائفية التي تبشّر بها الأنظمة في حال زوالها، فهي أكبر حجّة عليها، ولن يذهب ضحيتها في النهاية سوى هذه الأنظمة ذاتها. فهذه القبائل والمناطق والطوائف هي “أبناء البلد” قبل أن تكون أيّ شيء آخر، وسوف تبقى فيه بعد فرار الطغاة النهّابين، الذين لم يكن لها معهم، كطوائف، أية مصلحة من قبل، ولن يكون لها أيّة مصلحة من بعد، في حين أنّ لها كلّ المصلحة في أن تكون إلى جانب بقية شعبها في هذه الثورات الديمقراطية، ثورات المواطنة والعدالة، التي لا يمكن إلا أن تكون خروجاً من ربقة الولاءات الطائفية والقبلية، بخلاف الأنظمة المثقلة بالخطر الطائفي الماحق.
ها هي الأنظمة تهدّد بما كان ينبغي لـ “ثوراتها” أن تزيله من مذهبية وطائفية وقبلية وجهوية، لكنها بدل أن تزيله راحت تنتجه وتعيد إنتاجه. فليس وجود القبائل والطوائف والجهات بحدّ ذاته هو المشكلة، بل تسييس هذا الوجود وإقامة مصالح وولاءات تبدو لأول وهلة كأنها تقوم على أساسه. لكن الحقيقة أنّ الطغيان والفساد لا قبيلة له ولا طائفة ولا عشيرة. وما تكشفه الانتفاضات العربية هو أنّ مثل هذه اللغة هي لغة الماضي، لغة الأنظمة البائدة، وليست لغة المستقبل، لغة الثورة، التي تنظر إلى البشر في المجال العام بوصفهم مواطنين وأفراد وطبقات وفئات اجتماعية، لا بوصفهم أديان وعشائر وقبائل، فهذه الأخيرة لها مجالها الخاص. ولعلّ الأهمّ من نقد منطق الطغاة على هذا الصعيد، نقد منطق يسود قطاعات من المعارضة تنظر إلى أبناء البلد على أنهم طوائف أولاً، ثم تدعوهم لأن يكونوا شركاء. وهذا منطق طائفي، هو مقلوب منطق الأنظمة ووجه عملته الآخر.
أما الخطر/الاختلاق الثالث، الخطير، فيتعلّق بعلاقة الثورات العربية الراهنة بالمسألة الوطنية. فبين أنظمةٍ ترى أنَّ هذه الثورات قامت ردّاً على “لا-وطنية” هذا النظام أو ذاك ومعارضةٍ ترى أنّ لا علاقة لهذه الثورات بالمسائل الوطنية بل بالقمع والفساد، يتكشّف فَهْمٌ خاطئ وخطير لما تعنيه “الوطنية” بالفعل. فالوطنية جُهْدٌ يرمي إلى إقامة بنية اقتصادية–اجتماعية مستقلة ومتمحورة حول ذاتها وحول مصالح شعبها بعيداُ عن أيّ ارتهان أو تبعيّة، وليست محاربة عدوّ محتلّ على أهميتها العظيمة وضرورتها التي لا بدّ منها، سوى جزء من هذا الكلّ. ومن الواضح أنّ مثل هذا التعريف للوطنية لا يفصل بين ما يُحَقَّق من تنمية وتقدم اجتماعي وحريات تضمن مشاركة أوسع قطاعات الشعب وبين مقاومة الاحتلال والمشاريع الخارجية وممانعتها. وبذلك تكون الوطنية وجه العملة الآخر للديمقراطية والحريات والحفاظ على الثروة الوطنية وتنميتها وليست قطباً يواجه كلّ ذلك، أو يمكن فصله عنه في ترتيب زائف لهذه الأولويات. وكما ينبغي أن نشكّ في “وطنيّة” من يمارسون النهب والقمع، كذلك ينبغي أن نشكّ في “ديمقراطية” من يستقوون بالإمبريالية الأميركية، وتلتبس عليهم حروب مقاومة إسرائيل.
هل كانت ثورة مصر سقوطاً لنظام كامب ديفيد؟ لا شكّ أنها تنطوي على ذلك، لكن هذا السقوط لم يحصل بعد. ذلك أن كامب ديفيد ليست السادات ولا مبارك وحده، بل خيار نظام هو نظام تلك الطبقات والفئات الاجتماعية من القطط السمان التي سلبت مصر وجوّعت شعبها وقمعته وانتفخت بالمال المنهوب حتى صارت مصالحة العدو خياراً استراتيجياً لها، وهذه الفئات المؤيدة لإسرائيل لا تزال في السلطة. ولا مجال للفصل، إذاً، بين سقوط كامب ديفيد، وسقوط نظام القمع والنهب وتقييد الحريات، فهذان الطرفان ليسا سوى الطرف الواحد ذاته، الأمر الذي يجعل الثورة ونجاحها حصن المسألة الوطنية بكل أوجهها، وليس نقيضاً لها بأيّ حال. وبذلك تجمع الثورة، وينبغي لها أن تجمع، بين الطلب على الحريات الأساسية والموقف الوطني ومناهضة ضروب الانقسام العمودي ومحاربة الفساد في وحدة واحدة لا يكاد ينفصل فيها الديمقراطي عن الوطني والاجتماعي.
وإذا ما كان للحديث أن يتركّز على سوريا، مع أنه لم يبتعد عنها في كلّ ما سبق، فإنّه لا بدّ من القول أنّ ثمة سباقاً دموياً مع الزمن يكتنف البلد برمّته معرّضاً إيّاه لاحتمالات خطر شديدة، تبدأ بالتدخل الخارجي ولا تتوقف عند الشعبوية الفاشية أو التحول إلى النموذج الليبي، وذلك إن لم يجر التحول الديمقراطي الذي لا بدّ أن يبدأ، إذا ما اختار النظام أو أجزاء منه المشاركة فيه، بوقف سيل الدماء أولاً وقبل كل شيء؛ والاعتراف بكل شهداء الثورة شهداء للوطن، ومنح عائلاتهم المزايا والرعاية التي تحظى بها أسر الشهداء؛ وتشكيل لجنة مستقلة ونزيهة وشفافة ومسؤولة لتقصي الحقائق وإحالة كل من ارتكب فعلاً إجرامياً أو أمر به إلى المحاكمة؛ وتحديد موعد محدد لإلغاء المادة الثامنة من الدستور، وذلك وفقاً للمهل الدستورية التي يحتاجها إجراء ذلك؛ وإزالة كل ما يحول دون رفع حالة الطوارئ رفعاً حقيقياً؛ وإطلاق سراح جميع المعتقلين على خلفية الأحداث الأخيرة، وإصدار عفو عن كل من تمت إحالته إلى المحاكمة منهم؛ وإطلاق سراح جميع معتقلي الرأي، وإصدار عفو عن كل من تمت إحالته إلى المحاكمة منهم سواء أصدر بحقه حكم أم لا؛ وإصدار ما يكفل الحقوق الدستورية في حرية التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي والإضراب، وإصدار مرسوم يعطل جميع مواد القوانين التي تحدّ من ممارسة هذه الحقوق؛ وإصدار ما يضمن حقّ تشكيل الأحزاب بمجرد الإخطار وتحت سقف الدستور الحالي (بعد إلغاء المادة الثامنة)، وذلك ريثما يصدر قانون عصري للأحزاب وريثما يتم إعداد دستور جديد ويتم الاستفتاء عليه؛ تحديد موعد محدد لإعادة هيكلة جميع الأجهزة الأمنية، وتحديد مهامها تحديداً واضحاً، وكف جميع تجاوزاتها ومختلف أشكال تدخلاتها في حياة المواطنين بدءاً من الموافقة الأمنية على الوظيفة ووصولاً إلى الموافقة الأمنية على السفر؛ تشكيل حكومة إنقاذ وطني مؤقتة ذات عمر محدد سلفاً، برئاسة وجه غير بعثي، لا وجود فيها لوزارة للإعلام، ويحدد رئيس الجمهورية مهامها الأساسية على النحو التالي:
o على المستوى السياسي:
تشكيل لجنة للمصالحة الوطنية تعمل على إنهاء مفاعيل القمع من حيث الكشف عن مصير كل من اعتقلوا أو قتلوا سابقاً وراهناً وتسوية وضع من مازالوا بحكم الفارين أو المطلوبين، وإلغاء كافة المراسيم الاستثنائية؛
اتخاذ الخطوات اللازمة لتشكيل جمعية تأسيسية تضع دستوراً جديداً للبلاد؛
اتخاذ الخطوات اللازمة لضمان نزاهة عمليات الاستفتاء على الدستور الجديد وعلى انتخابات مجلس الشعب التي ستتم في ظله ووفق قانون انتخابات جديد؛
اتخاذ الخطوات اللازمة لإعطاء الثقة للناس بأن عهد الفساد قد انتهى وذلك من خلال إحالة رموز الفساد الكبيرة إلى القضاء، ومن خلال إصدار قانون جديد للمشتريات العامة؛
o على المستوى الإعلامي:
إيجاد بديل لوزارة الإعلام لا يرقى لمستوى وزارة (مجلس وطني للإعلام مثلاً)، وإصدار قانون عصري للمطبوعات، وتغيير وجه الإعلام الرسمي بشكل كامل مع استبعاد الظهور المنفر للوجوه التي اعتادت تملق النظام والدفاع عنه بشكل استفزازي؛
o على المستوى الاقتصادي:
التركيز على ضمان انعكاس التغيرات السياسية إيجاباً لا سلباً على الوضع الاقتصادي خلال الفترة القصيرة لعمر الحكومة، ومعالجة أي تدهور طبيعي أو مفتعل بالسرعة القصوى؛
تخفيض أسعار خدمات الاتصالات بشكل ملموس ومن دون إحداث ضرر بنمو هذا القطاع، مع الإسراع بإدخال مخدم ثالث للاتصال الخليوي وإلغاء جميع القوانين والاتفاقيات التي تعطل المنافسة بين المزودين؛
رسم ملامح إدارة جديدة لقطاع الدولة بهدف تحويله إلى قطاع رابح في ظل شروط المنافسة؛
رسم ملامح سياسة تشغيل وخلق فرص عمل جديدة في قطاع الدولة، مع تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في المشاريع ذات المستوى التكنولوجي المنخفض لزيادة الطلب على اليد العاملة؛
رسم ملامح سياسة ضريبية جديدة مع خطاب جديد لرجال الأعمال: إدفع الضريبة ولا تدفع الرشوة؛
o على المستوى الاجتماعي:
التركيز على ضمان انعكاس التغيرات السياسية إيجاباً لا سلباً على الوضع الاجتماعي خلال الفترة القصيرة لعمر الحكومة، ومعالجة أي تدهور طبيعي أو مفتعل بالسرعة القصوى؛
رسم ملامح سياسة تنموية جديدة تركز على التخفيف من حدة الفوارق الجهوية؛
ولا شكّ أنَّ من الممكن إضافة كثير من الأمور الأخرى إلى ما سبق، مما يندرج في إطار المرحلة الأولى من التحول الديمقراطي، وبما يضمن تجنيب البلاد درب الجلجلة، فهل من مجيب؟
كاتب ومترجم من سورية
خاص بأوكسجين