ثورة وخُصْيان
أبو نضارة
في أواخر عهد الرئيس حافظ الأسد سمحت الرقابة السورية بتداول كتاب يحتوي على شهادة لمواطن شريف يؤكد أن “رئيسنا ليس له خصيتان” ويدعو إلى الثورة صارخاً: “أيها الخصيان… الموت ولا التَّعريص مع دولة هذه الأيام”
لا يأتي الكتاب على ذكر سورية بالاسم، لكنه يفيض بتفاصيل الحياة اليومية في سورية الأسد. وقد صدر كمسرحية تحت عنوان “يوم من زماننا”. وكاتبه ليس سوى سعد الله ونوس الذي اقترن اسمه بالنضال من أجل الحرية، إضافة إلى كونه أحد صانعي فيلم “الحياة اليومية في قرية سورية” الممنوع من العرض منذ بداية عهد الرئيس حافظ الأسد
فما الذي جعل الرقابة السورية تسمح بتداول هكذا كتاب في بلد لا يجرؤ فيه مخلوق على الإشارة للذات الرئاسية ولو بالوماء؟ لعل الإجابة تكمن في الكتاب نفسه الذي يروي قصة أستاذ في “مدرسة نموذجية” يثور ضد الفساد المستشري في المجتمع ويجابه السلطة القائمة باسم القيم العليا. غير أن ثورة الأستاذ تبوء بالفشل، مما يقوده إلى الانتحار معترفاً بأنه: “لم يعد لي زمان، ولم يعد لي مكان”. في المقابل، ينتصر المدير مؤكداً أن: “هذه المرحلة لا يمكن أن تتعايش مع التزمُّت والأفكار الجامدة والأخلاقيات البالية”. ويسود الرئيس، رئيسنا الخالد، كما الرب بذاته، بالتعاون مع مومس تغدق الهبات والصدقات لمصالحة الناس مع “الدنيا الحقيقية” بعيداً عن “الأوهام الجميلة” ؛ مومس فوق الشبهات تعيش وسط جدران من المرايا التي “تبرز المرء من كل جهاته وبكل أوضاعه”. أما المواطن الشريف الذي تعرض لخصيتي الرئيس، فينتهي في مشفى المجانين بسبب إصابته “بالجمود والعجز عن التكيُّف”
بعبارة أخرى، يبدو وكأن الرقابة السورية رأت في الكتاب ما يطمئنها من اعتراف بنهاية الصراع التاريخي بين المجتمع والسلطة لصالح هذه الأخيرة. فهو يخلص إلى انتصار الخصيان، وهم أنصار “الثورة الحقيقية” الذين آثروا “المرونة والانسيابيّة” على عذرية المبادئ في سبيل دخول الوطن إلى “مغامرة العصر”. كما أنه يعترف بسطوة المومس ذات المرايا الخلّابة التي فرضت تصورها للواقع وباتت مثالاً يحتذى لدى جيل الشباب
والحال أن انتصار الخصيان في سورية الأسد بدا ساحقاً ونهائياً إلى أن حدث ما لم يكن بحسبان الرقابة والأستاذ المثقف في آذار 2011. فقد دبت الثورة في عروق المجتمع وظهر السوريون بصورة مغايرة لتلك التي فرضتها المومس. لكن يبقى السؤال: كيف وجدت الثورة طريقها إلى مجتمع تفشى فيه “الانحلال الخلقي” حتى باتت الثورة ضرب من المستحيل، حسب ما خلص إليه الأستاذ المثقف قبل أن ينتحر؟ ولمَ لا تكون الأحداث التي تشهدها سورية منذ سنتين هي مؤامرة خارجية ينفذها مندسون ورعاع؟
السؤال مشروع إلا أنه خارج الموضوع، ذلك أن المشكلة تكمن في الأستاذ لا في الثورة. فهو يعتقد أن دور المثقف يقتصر على “حماية الأخلاق” ويندفع إلى مواجهة السلطة القائمة بحماس المؤمن. لكن حماسه منفصل عن الواقع لدرجة أنه يصاب بصدمة لدى اكتشافه أن إحدى طالباته تعمل قوّادة للمومس وأن هذه الأخيرة قد ورطت كل سكان الحي بمن فيهم زوجته. ولأنه عاجز على قراءة الأحداث ومواجهة الواقع بمعزل عن الصورة التي فرضتها المومس، فهو ينتهي بالانتحار هرباً من “الخراب والوحشة والفوضى”
أما الثورة، فهي تبدو بالطبع مستحيلة في غمرة الأحداث التي تدور في فلك الأستاذ المُحبَط والمومس المنتصرة. لكن هناك مؤشرات مغايرة وبشائر تهلُّ من أرض الواقع رغم كل شيء. فقد تم القبض على تلميذة في “المدرسة النموذجية” وهي تقرأ في كتاب “طبائع الاستبداد” الممنوع من التداول. كما عُثر على مجموعة من الكتابات السياسية والشتائم التي تطال ذات الرئيس، مخطوطة على جدران مراحيض المدرسة
هل فهمت الآن في أي ورطة نحن؟” يسأل مدير المدرسة المذعور إثر هذا الاكتشاف. إنها مجرد “خربشات صبيانية”، يجيب الأستاذ المثقف… ثم يمضي إلى ثورته المستحيلة ويسود الأمان في بلد الخصيان
ملاحظة: كل تشابه بين المومس والتلفزيون هو محض صدفة. لذا وجب التنويه