جائزة البوكر العربية هل هي ابنة مشوّهة للجائزة الأم؟/ إبرهيم فرغلي
ترددت مطولا في الكتابة عن جائزة البوكر في دورتها الأخيرة، خصوصا عقب إعلان ترشيحات القائمة القصيرة، لأسباب عدة، أبرزها أني لمست لونا من الارتياح وربما البهجة من جانب عدد كبير من المثقفين في المغرب والعراق، لوصول مرشحين اثنين من كل من البلدين إلى القائمة القصيرة، وتفهمت هذه المشاعر فآثرت ألا أفسد البهجة.
لكني اليوم، وعقب إعلان حصول رواية “فرنكشتاين في بغداد” للكاتب العراقي أحمد السعداوي على الجائزة في دورتها المنقضية، أجدني في حلٍّ للكتابة عن الجائزة، أو بالأحرى عن معضلة لجان التحكيم، وذوق هذه اللجان، وتعليقات المحكّمين بعد إعلان الجائزة، التي تبدو جميعا كأنها تصب في صالح البحث عن “القراءة المسلية”، أكثر من اعتبار أن الجائزة تمنح لأفضل رواية صدرت باللغة العربية في العام المواكب للدورة.
هذا ليس انتقاصا من رواية السعداوي، لكني أقول إن فكرة “الأفضلية” هذه في ذاتها معضلة. إذ تظل فكرة السعي نحو الأفضل مسؤولية ضخمة، ينبغي أن تتحملها لجان التحكيم، بإحساس عال بأن هذه الأفضلية تتأتى غالبا من ضرورة توافر قيم أدبية لا يمكن التغاضي عنها لصالح الإثارة والتشويق وفكرة المتعة، كما صرح أعضاء لجنة التحكيم في هذه الدورة عقب إعلان القائمة القصيرة، ولا لمعايير السوق. وإلا فما فائدة الجائزة إذا كانت تدفع في اتجاه سوق يمتلك أساسا وسائل الدعاية اللازمة لترويج سلعته بكل ألوان الإغواء والدعاية التجارية التي لا تتوافر للسلع الرصينة؟ وما فائدة الجائزة إذا لم تسع للتعريف بالمنجزين الحداثي والتجريبي اللذين يمثلان إضافة ضرورية إلى تاريخ الرواية العربية؟ ومن المستفيد في حالة الترويج لروايات دون المستوى الأدبي الرصين؟
قد يكون الالتفاف على القيم الأدبية والمعايير التي تنحاز إلى نص رفيع المستوى، في بعض الأحيان، عائدا للسبب الذي جعلني شخصيا أتأخر في الكتابة عن الجائزة كما أسلفت في المقدمة، وهو المسألة الإقليمية، ووضع اعتبارات البلد الذي يمثله الكاتب، اولويةً قد تسبق المعيار الأدبي في بعض الأحيان. وهذا ما تجلى مثلاً في الدورة التي أعلن فيها رئيس إحدى اللجان التوجه لمنح الخليج فرصة، في سابقة غريبة على الجائزة.
هذا الإشكال يبدو إشكالا خاصا بالنسخة العربية من الجائزة، لأن النسخة الأصلية البريطانية من الجائزة التي أنشئت عام 1968، خصصت لأفضل عمل صادر باللغة الإنكليزية في بريطانيا وايرلندا، والكومنولث، قبل توسيع نطاق الجائزة لكل عمل مكتوب بالإنكليزية خلال عام. أي أن فكرة الانحيازات الإقليمية، او الانشغال بالتوزيع الإقليمي للفائزين، لم يعطلا نجاح جائزة بوكر البريطانية حتى استقرت وترسخت.
ربما أيضا لم تتعرض النسخة الروسية من الجائزة لمثل هذا العنصر، لأنها مخصصة للأدب المكتوب بالروسية في إقليم متجانس؛ على عكس النسخة الآسيوية، التي يشترك فيها ما يربو على 43 دولة، بينها دول لها جذور أدبية عريقة مثل الصين والهند واليابان وتركيا، وغيرها. لكن الحل الذي توصلت إليه إدارة “بوكر مان” آسيا، وفقا لتتبعي قوائم لجان التحكيم فيها؛ أنها اعتمدت في تمثيل لجان التحكيم على ثلاثة محكمين فقط، بينهم رئيس اللجنة، من خارج الدول الآسيوية. فأغلب المحكمين من بريطانيا وإفريقيا وأميركا وغيرها من دول العالم، وذلك بسبب توافر الكتب المشاركة باللغة الإنكليزية. تالياً يصبح من السهل إيجاد خريطة واسعة لاختيار المحكّمين من بينها.
هذا للتذكير بما قد يستدعيه اسم الجائزة المتداول، “الجائزة العالمية للرواية العربية”، المعروفة أيضا بـ”جائزة بوكر العربية”. أما على أرض الواقع فموقع الجائزة يؤكد أنها تدار “بالشراكة مع مؤسسة جائزة “بوكر” في لندن وبدعم من هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة في الإمارات العربية المتحدة. كثيراً ما تتم الاشارة إلى الجائزة العالمية للرواية العربية بوصفها “جائزة البوكر العربية” (Arab Booker Prize)، إلا أن هذا ليس بتشجيع أو تأييد من الجائزة العالمية للرواية العربية أو من مؤسسة جائزة البوكر، وهما مؤسستان منفصلتان ومستقلتان تماماً. الجائزة العالمية للرواية العربية ليست لها أي علاقة بجائزة “مان بوكر” (اسمها بالانكليزية Man Booker).
بالرغم من تأكيد هذا الاستقلال، هناك الكثير من التقاطعات بين الجائزتين. لكن التشابه بين أهداف الجائزتين لم يراع في النسخة العربية، مسائل من بينها أن المستوى الثقافي العام للمجتمع البريطاني، يختلف تماما عن نظيره العربي، أولا من حيث نوعية النقاد أنفسهم ومستواهم، واختلاف ذائقة المحكّمين وبينهم موسيقيون لذوق القارئ المثقف من مختلف الفئات وليس النقاد فقط. هذا ما تكشف عنه طبيعة أسماء الكثير من الفائزين في السنوات الأولى للجائزة البريطانية، التي سنجد من بينها الكثير ممن حصلوا على نوبل لاحقاً، مثل كويتزي، نادين غورديمير، ونايبول، وطبعا بعض الأسماء المستقرة في خريطة الادب الإنكليزي المعاصر مثل سلمان رشدي، آيريس موردوخ، وغيرهم.
الجائزة البريطانية المرموقة نفسها لم يخل تاريخها من الانتقادات، وبينها اتهام سلمان رشدي لها يوماً بعدم الرصانة بسبب تصريح أحد رؤساء إحدى لجان التحكيم بأنه لم يقرأ بروست أو جيمس جويس، ولن يقرأهما، ولن يسمح بتشجيع كتب على هذا المنوال. لكن يظل الفارق كبيرا من حيث نوع الرواية والنصوص الفائزة، ومن حيث زيادة حجم المبيعات؛ إذ عادة ما يبلغ حجم بيع الرواية الفائزة في بوكر بريطانيا ما يقرب من مليوني نسخة، كما أن القائمة العامة للروايات الفائزة في مجمل تاريخ الجائزة الطويل تظل قائمة مرموقة ولا غبار عليها.
ارتفعت مبيعات الروايات في العالم العربي وخصوصا روايات الجائزة. هذا صحيح وملاحظ، إلى درجة أن رواية “ساق البامبو” على سبيل المثال صدرت منها في عام واحد 16 طبعة، وهذا جيد جدا، وهي في تقديري رواية تستحق هذا النجاح. لكن يمكنني القول إن التسويق والترويج للخفة، أو مزج العاطل بالباطل كما يقول المثل الشعبي المصري، لا يمكن أن يؤدي إلى نجاح الجائزة، وخصوصا أنه قد تجلى للكثير من المراقبين أن هناك محاولة لتأمل النصوص المرشحة في حال فوزها مترجمةً للغة الإنكليزية. لكننا نذكر دوما أن نجيب محفوظ لم يضع في اعتباره يوما سوى قارئه العربي، والمصري، وهذا ما حقق له العالمية.
“فرانكشتاين في بغداد”
تحكي “فرانكشتاين في بغداد” للكاتب أحمد سعداوي، التي فازت بالبوكر هذه السنة، قصة هادي العتاك بائع العاديات في حي شعبي في بغداد الذي يقوم بتلصيق بقايا بشرية من ضحايا الانفجارات في ربيع 2005 ويخيطها على شكل جسد جديد، تحل فيه لاحقا روح لا جسد لها، لينهض كائن جديد، يسميه هادي “الشسمه”، أي الذي لا أعرف ما هو اسمه، وتسميه السلطات المجرم أكس، ويسميه آخرون فرانكشتاين. يقود هذا الكائن حملة انتقام صد كل من ساهم في قتله٬ أو على الأصح من قتل الأجزاء المكونة له