جرابلس ودولارات صبرا
يوسف شيخو
“مخيم الجوع”. ربما كان أقرب وصف لواقع ذاكَ المخيم الممتد على أرضية ملعب كرة القدم جنوبي مدينة جرابلس التابعة لمحافظة حلب السورية. أقدامُ أطفال حفاة، وجوهُ نساء عابسات، وصراخُ الرضع جوعاً. هي لوحات تشي بمأساة يعانيها قاطنو “بقعة الأمان” تلك. “المدن” دخلت المخيم لتُصطدم بأوامر تمنعها من تصوير الحال. ما السبب؟ يجيب أحد حراس المخيم: “مللنا من كذب الصحافيين وكذلك المؤسسات الاغاثية التي تزعم تقديم المساعدة.. يأتون ليصوروا المخيم ومن ثم يَعِدوننا بالمساعدة، دون أن نرى كسرة خبز”.
أمام إحدى الخيم، المطلة على الحدود التركية، تجلس ثلة من النساء، يحوم حولهن أطفال كُثر، بثيابهم الرثة المترهلة على أجسادهم الهزيلة. تقول إحداهن، بصوت جهوري خانق: “كل من يخبرك إن وضعنا مُيسر يكون منافقاً.. ليس هناك خبز ولا ماء ولا دواء ولا حليب للأطفال”. وبينما تهز جاراتها رأسهن في إشارة إلى الموافقة على ما قيل أمامهن، تضيف النازحة: “الجميع يتاجر باسمنا.. ويسرقون باسمنا”. تمضي في قولها: “لقد أعطوا كل أسرة علبتي زيت منذ شهرين.. نسينا طعم الشاي وأطفالنا طعم الحليب”.
يقطن مخيم جرابلس 185 أسرة (نحو 1200 نازح)، فيما تتوزع نحو50 أسرة نازحة على خمس مدارس في المدينة. غالبية النازحين قدموا من ريف حلب والرقة. وقبل أيام، وصلت أول دفعة من النازحين من مناطق “طلف” و”عقرب” في محافظة حمص إلى مخيم جرابلس. قرب إحدى الخيم التقت “المدن” رب أسرة أربعيني، يقول أنه يخرجُ كل يوم بحثاً عن العمل في “أي شيء” علَهُ يكسب مالاً يحمي به أسرته من “آلام الجوع”، فيما يقول آخر، وهو يضحك: “تفضلوا إلى خيمتي.. نحن لدينا شاي اشتريته من عرق جبيني”.
ما قيل آنفاً “ليس مبالغة”، يؤكد هيثم أحمد، مسؤول المخيم، الذي يوضح أنه منذ نحو خمسة أشهر والمخيم يفتقد للطعام والخدمات الطبية. ويضيف أحمد لـ”المدن” أن: “الوضع الصحي هنا مزري”، حيث انتشرت أمراض عديدة كالجرب وحبة حلب (لاشمانيا) وكذلك الحصبة. كما يفتقد المخيم إلى مبيدات الأفاعي والعقارب. يقول: “نحن نعتبر الموضوع الصحي أهم حتى من الطعام”.
وكما يقول مسؤول المخيم، فإن موضوع المنظمات الاغاثية ليس إلا “كذبة إعلامية”، بينما يفيد مصدر مطلع في مدينة الريحانية التركية، حيث مركز ثقل المؤسسات الاغاثية، أن “الموضوع الاغاثي بات بمثابة منجم ذهب للكثير من المؤسسات المرتبطة بشخصيات ومؤسسات معارضة”. يضيف المصدر لـ”للمدن”، إن مهمة الكثير من هذه المؤسسات “لا تتعدى التسول على أبواب مؤسسات اغاثية أوروبية وخليجية” بداعي مساعدة النازحين في الداخل أو اقامة دورات تدريبية للناشطين، مؤكدا أن غالبية مشاريعهم “وهمية”.
لكن ماذا عن مؤسسات المعارضة، لا سيما مكتب الاغاثة في “الائتلاف الوطني السوري”؟ يجيب أحمد بأنه أثناء زيارته للشريط الحدودي منذ نحو 4 أشهر “جاء جورج صبرا (القائم بأعمال رئيس الائتلاف حالياً) إلى المخيم”، وبعد أن جال بين الخِيم “وقف أمام النازحين ليهتف وبيده مبلغ 5 آلاف دولار، وبدأ يلوح برزمة النقود وهو يخاطب النازحين: “سأعطي هذا المال لمسؤول المخيم. لكنه لكم .. خذوا هذا المال ولبوا به احتياجاتكم”.
كانت هذه المرة الوحيدة التي قَدمت فيها المعارضة المساعدة للمخيم، على ما يوضح أحمد الذي يعلق على تصرف صبرا، بالقول: “ليته لم يقدم هذه المساعدة، لأنه وضعني في موقف محرج. إذ بدأ النازحون يطالبونني بحِصصهم من النقود التي كان يلوح بها صبرا”. ويتابع: “ثاني يوم قمت بإعداد وجبة طعام على شرف واسم جورج صبرا وقمت بتوزيع مبالغ مالية على الأسر على اسم صبرا أيضاً، لأنني كنت مدركا بأنه في حال ُصرف المال على أمور ضرورية أخرى سأكون لصاً في أعين النازحين”.