جمالُ الكلماتِ، فظاعةُ المعسكرات/ هيرتا موللر
كانت معسكرات الاعتقال قد غدَت تجربةً جوهريّة خلالَ القرنِ المنصرمِ، بل كانت شيفرةَ حقبة زمنيّة كاملةٍ قضى فيها ملايين البشر نحبهم. لذا، أوكلَ العديد من كتّاب القرنِ الفائتِ إلى أنفسهم مهمةً جماليَّة محاولينَ إيجاد لغةٍ للكوارثِ، أي تحويل الفظائع المرتكبةِ آنذاك إلى كلماتٍ، وقد كانَ الكتّابُ النّاجون أنفسُهم من عثروا على الكلمات المناسبة -والمتباينة للغاية- لوصفِ وحشيَّةٍ يوميَّة لا يُمْكِنُ تصوُّرها بالفعلِ، ويخطرُ منهم في بالِ المرءِ: الكاتبُ الروسيّ أليكساندر سولجنيتسين والروسيّ الآخر فارلام شالاموف وكذلك الإيطالي بريمو ليفي والمجريّ إيمري كيريتش.
صحيحٌ أنّ زمنَ هؤلاء النّاجين أخذَ بالأفولِ تدريجياً مع وصول القرن الجديد، إلا أنّ الأدب الذي يُعاين هذه الدوامة اللا إنسانية التي كانت مسيطرةً ذات وقتٍ لما ينته بعدُ؛ فالكتاب الجدد، الذين ولدوا في الحقبة اللاحقة، ظلّوا يبحثون بدورهم عن فلسفتهم الجماليّة الخاصة عن الرّعب والفزع.
يعدُّ كتابُ “أرجوحة النَفَس” للكاتبة الرومانية/الألمانية هيرتا موللر من أكثر الأعمال الأدبية أهميَّة في القرن الحالي، والذي حازتْ كاتبتُه في سنة صدوره 2009 على جائزة نوبل للآداب.
روايةُ “أرجوحةَ النَفَس” ليست نتاجاً مباشراً لأحدِ الناجين من معسكرات الاعتقال، حيث أن موللر المولودة سنة 1953 في منطقة البيانات الرومانية والتي هاجرت سنة 1987 إلى جمهورية المانيا الاتحادية لا تُعَدّ من كتّاب الجيل الذي عاصرَ تلك المعسكراتِ الظالمة بل من الجيل اللاحقِ لتلك الحقبة، إلا أنَّ كتاباتها تدور على الدوامِ حولَ تجربةِ والدتها التي قضت سنوات عديدة في أحد المعسكرات السوفيتيّة وكذلك تجارب أناس آخرين من قريتها الرومانيّة عاشوا بدورهم تلك الأهوال، لكنَّها في هذا العملِ “أرجوحةَ النَفَس” تركِّز بصورة أساسيّة على تجربة الشاعر الألمانيّ ذي الأصول الرومانية “أوسكار باستيور”، الذي وُلِدَ عام 1927 ورُحِّل في عمر السابعة عشرة مع آلافٍ آخرين إلى الاتحاد السوفيتي للالتحاق بمعسكرات العمل القسريّ.
كانت موللر قد نسَّقتْ مع باستيور لكتابةِ عمل مشترك عن السنوات الخمس التي أمضاها الشاعرُ في تلك المعسكراتِ الرهيبة، لكن هذا المشروع الذي خطَّطا له سوياً لم ير النُّور بسببِ وفاةِ باستيور سنة 2006، فقرّرت موللر أن تصوغَ العمل ليكونَ بمثابةِ شهادةٍ وإرثٍ عظيمين للشاعر أوسكار باستيور.
الشيء المميَّزُ أيضاً في هذا العمل الروائيِّ هو اللغة التي تُسرَد بها أقدار “ليوبولد آوبيرغ” -الذي يمثّل الأنا الأخرى لباستيور-، في أربعة وستين مقطعٍا قصيرا. تكتبُ موللر عن كلِّ تلك الأهوالِ بشاعريَّة عميقة ولا تعتمدُ بخيالِها الخصبِ على الألمِ المجرَّدِ الواضحِ وشُحّ وسائل الوجود وقتذاك لوصفِ الفظائع، إنَّما على جمالية اللغةِ بالدرجة الأولى.
“إنَّني آكلُ نوماً قصيراً ومن ثمّ حين أفيقُ آكلُ نوماً قصيراً آخر”،
هكذا تصفُ موللر الجوعَ اليوميّ الذي عانى منه آوبيرغ مع بقيَّة المعتقلين هناك.
كما إنَّها تعرض تفاصيل كثيرةً لا تكاد تُحصى عن أناسٍ يحيون في ظروفٍ حالكةٍ ويشكّلون “مجتمعاً موازياً” تنعدمُ فيه وسائلُ الوجودِ الأساسيَّة؛ مجتمعٌ بَلَغَ النقطة صفر من الوجودِ تُقالُ فيه “وصفات الطعام” كالنُكاتِ ويسلبُ محامٍ فيه حصّة زوجه من الخبزِ فتموتُ؛ مجتمعٌ تُقلَع فيه أسنان “سارقِ الخبز” من قبل رفاقه في المعتقل.
أخيراً حين عادَ “ليوبولد آوبيرغ” إلى بلده بعد خمس سنين تحوَّل إلى كائنٍ ساكنٍ لا يخلطُ بين حياتِه وبين كلّ تلك التجاربِ المريرة المتجمِّعة في داخلِه، رغمَ أنَّها أثَّرت في نفسه عميقاً طيلة حياته.
اليوم يدركُ قارئُ هذا العملِ الصادم أنّ العنف والوحشية المرتكبة في ذلك الحينِ ربّما تكون قد تخفَّت قليلاً، إلا إنَّها لم تتلاش قط، بل لم تزل تُشكِّل البنيةَ الأساسية لوقتِنا الراهنِ.
المترجم: سوار ملا
ضفة ثالثة