صفحات العالم

جنبلاط والثورة السورية


أسامة عثمان

لا أخفي، شغفي بمتابعة أحاديث الزعيم الدرزي، وليد جنبلاط، ومناوراته الكلامية، التي لا تنقصها اللباقة والإمتاع…

تلك مسألةٌ شكلية، ربما، لكن الأكثر أهمية ما يستدعيه ذكرُ هذا الرجل من صفات الدهاء والمكر السياسي، والتنقل من النقيض إلى النقيض، وسعيُه للبقاء في عالم شديد الاصطراع والخطورة، هو العالم العربي، وفي القلب منه لبنان وسوريا، وما يجاورهما.

لكن من قال إن السياسية مبادىء؟! أليست هي فن الممكن؟ وهي وفق الثقافة السائدة، والبراغماتية، تقوم على الخفاء، والإخفاء، والمناورة، والتكتيكات التي تخدم الأهداف الكبرى، والمصالح الحيوية، وغير الحيوية. ولكن إلى أي حد تذهب تلك الآليات؟ وما حظ الثوابت والقيم معها؟

فيما يتعلق بالتحركات الشعبية السورية لإسقاط النظام اتخذ جنبلاط موقفا مساندا لها، وقطع الحبال التي كان وصلَها، بعد فترة من التوتر الشديد، مع نظام الأسد.

ولم يقف عند حد التأييد المعنوي، والحزبي، بل تعدى ذلك إلى تحريض الدروز في سورية على الانخراط في ثورة الشعب العادلة، «إذ حذر المناضلين العرب في جبل الدروز من «الانجرار خلف من سماهم زمرة من الشبيحة والمرتزقة الذين يوزعون عليكم السلاح، والذين يريدون وضعكم في مواجهة مع إخوانكم في سورية، ويسعون إلى جعلكم تشبهون حرس الحدود مع إسرائيل. تراثنا هو العيش مع المحيط العربي الإسلامي وهكذا سنبقى. المستقبل هو لأحرار سوريا، وموقعكم الطبيعي هو إلى جانبهم. وهم لن يسمحوا لبعض الشبيحة من جبل لبنان أو من قبل النظام أن يوقعوهم في الفخ الذي يُرسم لهم».

هذا الحسم السياسي من جنبلاط مبنيٌّ، بالطبع، على تقديراته أن النظام في دمشق في طريقه إلى الزوال، سورياً، ودوليا وإقليميا؛ فلا مصلحةَ للتعويل عليه، أو ربط المصير به، وسبق لزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، في مناسبات عديدة أن أكد أن الحكمة تتطلب من الدروز الانصهار بقضايا الأمة العربية التي هم جزء منها، محذرا من الانعزال والانعزالية.

ولا تخفى أهمية هذا الموقف، وإن لم يكن مُجْمَعاً عليه بين الدروز، فثمة موالون لنظام الأسد، ويستميتون في الدفاع عنه.

وتنبع هذه الأهمية من كون النظام في سورية يراهن على تخويف (الأقليات) من مصير مجهول ينتظرهم، في حال سقوطه، وكأنه الضمانة الوحيدة والمؤكَّدة لهم، ويتغافل عن سنة التغيير، التي لا ينجو منها أحد، حتى الأنظمة الأقل عَوارا منه.

كما يشكك هذا الموقفُ بفاعلية الاعتقاد المستند إلى طائفية الثورة السورية؛ إذ لو كانت طائفيةً لكان مكانُ الدروز المفترض أقرب إلى النظام الذي يحاول الاستقواء بالعلويين، في وجه من يسميهم سلفيين.

ونستذكر هنا تصريحات  النائب أكرم شهيب في «جبهة النضال الوطني» الذي رأى أن«موقف جنبلاط  كان لا بد منه بعد تدخلات من الملحقين اللبنانيين في النظام السوري، الذين لم يتوانوا عن التجييش في سوريا ودعوة الطوائف إلى التسلح». وأضاف: «لا نريد أن يتحول الصراع في سوريا إلى طائفي أو مذهبي، وبالتالي لا يجوز أيضا أن يقف الدروز إلى جانب النظام ضد ثورة الشعب، وأن يكونوا أداة لقمع إخوانهم السوريين، لا سيما أن أهل الجبل من الأوائل الذين وقفوا ضد الظلم أيام سلطان باشا الأطرش، من هنا كان من واجبنا أن ندعوهم إلى الالتحاق بالثورة إلى جانب إخوانهم الذين يناضلون للوصول إلى سوريا ديمقراطية متنوّعة». وندد بمقتل120 عنصرا درزيا من الجيش السوري في المواقع خلال مواجهتهم مواطنيهم، بدل أن يموتوا في الدفاع عن الأرض والقضية التي دخلوا إلى الجيش لأجله.

وفي نفس السياق يُسهم موقفُ جنبلاط في التخفيف من مخاوف الانقسام البلد طائفيا، فيما لو أُسقط نظام الأسد، كما تسهم مواقفُ العلويين من أنصار الثورة والمسحيين، وغيرُهم، كلُّ هذا يرجح كفة المطالب الوطنية والمدنية لثورة..

ولا يبدو موقف وليد جنبلاط بعيدا عن فكر والده، كمال جنبلاط، الذي أكد في كتاباته، ومواقفه، أهمية الحرية، والديمقراطية، ودعا إلى حكم شعبي تمثيلي، ورفض الأنظمة عندما تعزل الإنسان عن حريته؛ لأنها لا بد ستنهار…

فلا نستطيع أن نحصر أسباب موقف جنبلاط المساند للثورة في سورية،  في الأسباب الشخصية، والسياسية المصلحية، فقد يكون معززا كذلك بموقف فكري.

والمعنى أن العوامل الطائفية ليست اليوم مستبدة بالمكونات المختلفة في سورية والمنطقة العربية، صحيح أنها تزدهر، كلما خفتت فاعليةُ القواسم المشتركة التي هي حصيلة موروث ثقافي تاريخي لا يمكن تجاهل أثره، مثل هذه الانقسامات تتغذى على ردود الأفعال السياسية، وتشتد، كلما لحق حيفٌ وجور في اقتسام الثروات والموارد، وفي التمتع بالحقوق الاجتماعية والثقافية المعترفة بالتنوع والاختلاف…

كما أن هذه العوامل الطائفية لا تُترجَم، في منطقتنا العربية، إلى كيانات سياسية قابلة للتحقق إلا باعتراف دولي وتوافق إقليمي، إلا أنْ تخرج الأمور عن السيطرة، وهذا وضع خطر لا يُسمح بالوصول إليه بسهولة.

فجنبلاط هنا، مختلف، عن رئيس إقليم كردستان، وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود برزاني الذي يفضل استقلال إقليم كردستان، ويتعجل هذا الانقسام، فظروف العراق والأكراد هناك تختلف عن ظروف الدروز.

ففي الشام نظامٌ تآكلت شعبيتُه في أوساط فئات الشعب كله، وحتى لدى قسم من العلويين، أما في العراق فالحكومة المركزية ببغداد تمثل تهديدا، لتطلعات الأكراد الذين يمثلهم البرزاني، في الاستقلال والثروات.

وفي العراق نظام سياسي قائم على المحاصصة الطائفية، أما في سورية فالشعارات المطروحة، على لسان المجلس الوطني، وغيره من قوى معارضة، تتجه إلى دولة تعددية ديمقراطية مدنية، صحيح أن هذا لا يكفي لضمان تحقق هذا النموذج، ولكن الثقافة السياسية والرأي العام الذي يتشكل قد ينبني عليه التعاقدُ الاجتماعي، ولا سيما وثمة تعهداتٌ من «الإخوان المسلمين» الذين يمثلون فئاتٍ إسلاميةَ التوجه في الثورة، بالحفاظ على المبدأ الآنفِ ذكرُه.

ومثل هذه الاعتبارات، وغيرُها، لا تغيب عن بال الزعيم الدرزي في لبنان، وعمَّن يؤيد مواقفَه من النظام في سورية.

ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى