صفحات الرأي

جيلان/ أحمد بيضون

 

 

كانت خلافة العسكريين من ركّاب الانقلابات، ابتداءً من غدوات حرب فلسطين سنة 1948، للجيل الذي سبقهم من حكّام الدول العربية سبباً لحُكْمٍ بالإعدام المعنوي على هذا الجيل المدني من السياسيين. ولنسارع إلى القول أن الإعدام لم يكن، في بعض الحالات، معنوياً فحسب. ففي العراق، على الخصوص، لقي أركان العهد الملكي، بمن فيهم الملك الشاب نفسه، حتفهم بأشنع الأساليب قبل أن تباشر قوى الانقلاب وزعماؤه مسيرة الفتك الذريع بعضهم ببعض. ولعلّ الحملات الدموية التي كان العهد الملكي نفسه قد شهدها، مع أنها أصبحت تبدو متواضعة بالقياس إلى ما تتابع من فصول ابتداءً من تمّوز 1958، تقدّم تفسيراً جزئياً لهذا العنف الاستثنائي الذي اختصّت به الحالة العراقية. فلم تشهد سوريا (التي انحصر الفتك فيها، تقريباً، بأركان الانقلابات المتوالية) ولا شهدت مصر مثيلاً للبطش العراقي في المرحلة نفسها ولا تقاربه سوى الحالة اليمنية بما أفضى إليه الانقلاب العسكري فيها من نزاعٍ أهلي مديد.

على أن الإعدام المعنوي لجيل الساسة الحكّام السابق لهزيمة 1948 هو ما يعنينا ههنا. وهو إعدام تتبدّى قسوته عند استذكار المنطلق الذي تشكّلت فيه أدوار هؤلاء الزعماء وصورهم إذ هو منطلقٌ جلّلته أكاليل غارٍ معتبرة ضفرها شهداء وعزّزتها مواجهاتٌ قتالية ونضالات سياسية وانتهت إلى انهيار دولٍ وتأسيس دولٍ بعد انتصارٍ عامٍّ في الحرب الكونية الأولى تبعَتْه هزائم. والهزائم بقي بعضها يعتبر مجيداً بسبب التباين البالغ في ميزان القوى. هذا الجيل نفسه هو الذي واصل العراك الاستقلالي في مرحلة الانتدابين البريطاني والفرنسي وهو الذي حملت بعضَه بعضُ مراحل هذا العراك إلى مواقع في السلطة وحملتهم مراحل أخرى منه إلى السجون والمنافي. هو الجيل الذي تراوحت مساعيه، في تلك المرحلة، بين المصادمة والملاينة والذي اختلفت مواقع رجاله، إلى هذا الحدّ أو ذاك، على خريطة السعي الاستقلالي أو هي تحرّكت في هذا الاتّجاه أو ذاك، على تلك الخريطة ولكنه كان يتولّى بنفسه، بتوسّط ما يدور فيه من مواجهات داخلية، تعديل موازينه فينبذ هذا إلى الهوامش ويرفع ذاك إلى سدّة الزعامة أو يؤهّله لها، إلخ.

صحيحٌ، من بعدُ، أن الموقع العامّ لأهل السلطة من هذا الجيل بقي فيه خلل جسيم. تمثّل هذا الخلل في الهوّة الفاغرة بين ما كان طموحاً معلناً إلى الاستقلال العربي حملته «ثورة» 1916 وما انتهت إليه الحال، بعد ميسلون، من تقاسمٍ للسيطرة ما بين بريطانيا وفرنسا، على دولٍ توزّعت الشرق العربي وبدت دون المأمول، على غير صعيد، أو قُدّمت في التنازع السياسي عليها على أنها كذلك. يضاف إلى هذا الخلل تهمة التسليم لإرادة السلطة المنتدبة أو التقصير في مقارعتها، وقد وجّهت إلى كثيرين من أركان الدول الجديدة، وتهمة الخنوع للوضع القائم، بما فيه من تشتت وضعف، والاكتفاء بالنصيب المتاح من سلطة منقوصة وقد وجّهت إلى هؤلاء أنفسهم أو إلى أقرانٍ لهم من الجيل نفسه. ولا ريب أن ثالثةَ الأثافي التي استوت نوعاً من الختام للمرحلة إنما كانت تهمة المسؤولية عن هزيمة 1948 في فلسطين…

هذا وقبل أن تدخل دول الشرق هذه مرحلة الاستقلال وبعد ان دخلتها (وهذا استقلال تباينت شروطه إذ استبقيت بعده، في بعض الحالات، امتيازاتٌ اقتصادية وسياسية وقواعد عسكرية للمحتلّ) نُسب إلى كثيرٍ من حكّام المرحلة كثيرٌ من الفساد، على اختلاف صوره، بما فيها الاستئثار بامتيازاتٍ مختلفة تتيحها السلطة وحصر كثير من المنافع بالأنصار والأقارب والتقصير في تحصيل الحقوق الوطنية في ثروة البلاد من الأجنبي ومن ذوي الامتياز والاحتكار في الداخل وفي استثمارها في رفع سويّة الأهالي على كلّ صعيد. إلخ.

كان لهذه التهم منطلقاتٌ واضحة المعالم ولكن كثيراً من القَصص الذي تناول أشخاصاً بأعيانهم بتهم الفساد السياسي او المالي أو كليهما، تبين مما ظهر من الوثائق لاحقاً أو أمكنت معاينته من الوقائع أنه كان واهي المادّة أو عديمها أو أنه بني على تأويل منحرف لوقائع ثابتة. وفي كلّ حال، عمد الإنقلابيون وأبواقهم إلى الجزم بصحّة تهمٍ أقلّ ما يقال فيها أنها كانت محلّ أخذٍ وردّ في العهد السابق. وهذا فضلاً عن زعمهم الكشف عن وقائع أكّدوا أنها كانت مســتورة ناســـبين إلى انفــسهم نزاهـــةً في الرواية لا يوجد سبــبٌ للتــســـليم لهـم بها وممتنعين عن تحكيم أيّة سلطة مستقلّة عن نفوذهم في صحّة ما يدّعون أو بطلانه.

في وقتٍ من الأوقات، انطلقت حركةٌ يسّرتها، بلا ريب، كبوات الأنظمة ذات الأصول الانقلابية وخبوّ نجمها بنتيجة ما توالى عليها من فصول الإخفاق على المسرحين الداخلي والخارجي وما ظهر من جنوحها إلى الاستبداد بسائر قبائحه، ومن بينها الفساد والتفريط بالحقوق الوطنية. تمثّلت الحركة التي نشير إليها بتوالي التآليف المتعلّقة بالجيل الذي كان الانقلابيون قد انتقلوا من إعدامه ودفنه إلى معاملته وكأنه لم يكن أصلاً. كانت هذه التآليف تمثّل، من وجوهٍ مختلفة، نوعاً من محاولة الثأر أو محاولة ردّ الاعتبار إلى كثيرين من أعيان الجيل الاستقلالي وإلى ذلك الجيل، في جملته، من خلالهم.

بعض هذه الأعمال تولاه المظلومون أنفسهم في بطالة منافيهم. وهو كتب مذكّراتٍ أو يوميّات أصبح بعضها، في ما يتعدّى الهمّ الذاتي لصاحبه، عظيم المكانة التاريخية. فلا يمكن، اليوم، على سبيل المثال، لباحث في تاريخ سورية المعاصرة، أن يهمل مذكّرات خالد العظم أو مذكّرات أكرم الحوراني. ولكانت خسارة كبيرة للأدب وللتاريخ المعاصرين في هذه البلاد أن تبقى مجهولةً مذكّرات عادل أرسلان. ولكان نقصاً فادحاً في معرفتنا بمحيطٍ شاسعٍ من وقائع تاريخنا المعاصر تتوسّطه المسألة الفلسطينية أن لا تنشر مذكّراتُ محمد عزّة دروزة. إلخ.، إلخ. وهذا ناهيك بمكانة مذكّرات بشارة الخوري وكميل شمعون من معرفتنا بتاريخ لبنان في العهدين الانتدابي والاستقلالي…

بعضٌ آخر من فيض التآليف هذا، وهو الأغزر، يتمثّل في كتب السِيَر. فمع توالي الأعوام، لم يكد يبقى سياسي من جيل ما بين الحربين العالميتين لم تنشر له سيرةٌ أو أكثر من واحدة. وتساوي هذه السير ما يساويه مؤلّفوها ومصادرها لجهة ضبط الوقائع ولزوم جانب الموضوعية، مع العلم أن الموضوعية لا تمنع الانعطاف إلى الشخصية ولا النفور منها. وفي كلّ حالٍ، يفترض أن تحمل هذه الكتب قارئها، إذا كان من ذوي الحصافة، على التماس نظرة أوفر اتّزاناً إلى هذه أو تلك من الشخصيات المدروسة. فحتى الذين كان يظنّ أن القضاء الانقلابي قد أنزل بهم حكماً بالإعدام لا يطعن فيه ولا يردّ، يستردّ هذا أو ذاك منهم، بفعل سيرةٍ متواضعة تناولت حياته وتقلّبه في أدوار السياسة وأطوارها، قدرة على محاورة القارئ وعلى نوع من الدفاع عن النفس من وراء القبر.

لا تُخْرِج كتب المذكرات واليوميات ولا كتب السِيَر جيلَ ما بين الحربين قفيراً من الملائكة بعد أن كان قد استوى في أعقاب الانقلابات رهطاً من الشياطين. وهي، لو فعلت، لم تكن خليقة بالاعتبار. وإنما هي تردّ هؤلاء البشر إلى المرحلة التي كانوا بعض معالمها. وهي توضح أنهم لم يكونوا مستغرقين في أشخاصهم أو في أضيق بيئاتهم خالي الوفاض من كلّ مشروع سياسي ذي طموح عامّ. هي توضح أنهم كانوا ذوي مشروع تراوحت مساعيهم في سبيله وأمانتهم له بين حدود متحركة وأطوارٍ مختلفة وكذلك بين واحد منهم وآخر. أي إنها تحمل نظراتنا إليهم على شيء من النسبية، وهذا أمر صحّي. وتحملنا أفعال الذين خلفوهم وأرادوا إخماد ذكرهم، في عقود خمسةٍ أو ستةٍ مضت، حين نقارنها بما هو منسوبٌ إليهم، على كثير من التسامح حيال جيلٍ أصبح بعيداً وعلى كثيرٍ من الضحك المرّ.

كاتب لبناني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى