حان الوقت لتفكير أعمق في الموقفين الروسي والصيني
جهاد الزين
فيما تغلب على شخصية السياسة الشرق أوسطية للدولة الروسية الاعتبارات الجيوسياسية تليها الاقتصادية، فإن ما يغلب على شخصية السياسة الخارجية للدولة الصينية هو الاعتبارات الاقتصادية. هل لا يزال هذا التمييز دقيقا؟ هنا اسئلة لتفكير اشمل في الموقفين الروسي والصيني بعد صدمة “الفيتو الثاني”.
بعد “الفيتو الثاني” الروسي الصيني في مجلس الأمن بدا تصميم هذين القطبين الدوليين على اتخاذ وضعية تعطيل للاجماع الاوروبي الاميركي الخليجي في الشأن السوري المتفاقم شعبيا وامنيا، تصميما يتجاوز مجرد التكتيكات الاعتراضية ليصبح ذا طابع استراتيجي. لهذا لم يعد كافيا من الآن فصاعدا مجرد التوصيف التعبوي لمعاني هذا “الفيتو” بل بات طرح الاسئلة والدراسة الاستراتيجية من النخب العربية المنخرطة في عملية التغيير الجارية في المنطقة للاوضاع الدولية التي كشف عنها وبشكل يفوق التوقعات الوضع السوري.
اول الاسئلة هو هل هذه الاهمية الفائقة لسوريا هي أهمية النظام السياسي السوري القائم ام قبل ذلك اهمية الكيان السوري من حيث الموقع الجيوسياسي الذي يجعله في نظر روسيا جزءا من محيطها الاقليمي القريب كالقوقاز اي جزءا من منظومتها الاقليمية يؤدي سقوطه الى اختراقها، ام هو كنظام سياسي يؤمن القاعدة العسكرية الروسية الوحيدة الباقية في مياه البحر الابيض المتوسط… وهل هي سوريا مفتاح “طريق الحرير” الجديد العكسي من الشرق الى الغرب في نظر الصين وهي تواصل سياسة بناء بدائل لمحاولات اقفال الاسواق الاوروبية عليها بسبب “الحمائية” المتزايدة وتهديد طرق امداداتها النفطية البالغة الاهمية من ايران؟
هل شاءت الاقدار ان يشهد القرن الحادي والعشرون اول اعلان عن تخلي الصين عن حضورها “السلبي” في الشرق الاوسط الى حضور “ايجابي” مباشر امني وسياسي لحماية مصالحها الاقتصادية بعدما تكرست على المستوى العالمي المنافس الاقتصادي الاول للولايات المتحدة الاميركية؟
في التحليلات الغربية الجادة تغلب على الاستراتيجيات الروسية الاعتبارات الجيواستراتيجية كقوة عظمى سابقة لا تزال تحتفظ بكل ترسانتها النووية وتمتد في الجغرافيا والتاريخ على طول الحدود الجنوبية للشرق الاوسط الذي كانت مغامرتها الافغانية فيه في الثمانينات من القرن العشرين احد اسباب خسارتها لموقعها كقوة عظمى عالمية تدافع الآن وبما تبقى لها من سلطة في مجلس الامن وقوة عسكرية عن كونها قوة اقليمية عظمى. فكما كانت بداية “التكشير” عن انيابها في الحرب التي شنتها خارج حدودها في جورجيا لوقف تمادي اختراق واشنطن لمجالها الاقليمي ونجحت في ذلك… هل يكون موقفها السوري وقد ترافق مع تحركات عسكرية علنية الى مرفأ طرطوس ناهيك عن تعزيز الدعم العسكري الوثيق اصلا بين البلدين هو الحركة الاستراتيجية الثانية بهذه الاهمية بعد جورجيا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي؟ ويبدو التركيز على تأثير “الخدعة الليبية” التي تعرضت لها روسيا من “الحلف الاطلسي” مجرد تبرير دعائي لأن الدول عموما، فكيف الكبرى، لا تتعرض لخدع بهذه الطريقة بعد التصويت الذي يكون قد سبقه حساب دقيق من كل الاطراف. لذا من الارجح ان ربط الاستراتيجية الروسية التي ظهرت في الصراع على سوريا بـ”الخدعة الليبية” هو تبسيط شديد وخاطئ.
اذن فيما تغلب على شخصية السياسة الشرق اوسطية للدولة الروسية الاعتبارات الجيوسياسية تليها الاقتصادية فان ما يغلب على شخصية السياسة الخارجية للدولة الصينية هو الاعتبارات الاقتصادية. فهل يعني هذا ان الصين مع “الفيتو الثاني” تنتقل الى ما وصفه احد المحللين الصينيين الذي نقلت وكالات الانباء تعليقه بعد التصويت الاخير في مجلس الامن بأنه “ضرورة استعداد الصين لتحمل الحملات الاعلامية الضارية التي لم تتعود عليها سابقا في الشرق الاوسط نتيجة ركوبها الجديد متن سفينته الصراعية”؟
قال لي سفير عربي في بيروت بعد “الفيتو الثاني” وكان العالم لا يزال تحت وطأة الدهشة من قوة التصميم الروسي الصيني: إبحث عن الكفاءة الايرانية في الوصول الى هنا وليس السورية.
لكن وعلى الرغم من التأثير الايراني الاكيد في الحسابات الروسية الصينية وكل منها في الصراع الايراني الاميركي لها سياقها الخاص كما تقاطعاتها المشتركة يكاد المراقب يسأل بعد ما تكَشَّف عنه “الفيتو الثاني”: ألم تتجاوز تطورات الصراع على سوريا حتى الموقعَ الايرانيَّ نفسه رغم أهميته الخطيرة… الى حد اننا يمكن ان نكون امام بداية تشكُّل لوضع دولي جديد لا عودة فيه الى الوراء من شرفتي روسيا والصين ولاسيما ان المقربين من رئيس الوزراء الروسي بوتين المرشح لتولي الرئاسة يصرحون علنا بان اموالا اميركية تدفع للمعارضين الروس في موسكو لاسقاط بوتين. وعندما قال توماس فريدمان في مقاله الاخير للمتحدث الرسمي باسم بوتين في لقاء خاص معه في موسكو: هل تؤمن انت فعلا بتهمة التمويل هذه؟ قال له روستوف: “انا لا اؤمن بها لاني اعرفها”.
ثم ماذا عن العامل التركي في الحسابات الروسية؟ اليس اساسيا جدا من اكثر من زاوية: نشر شبكة الدفاع الصاروخي
لـ “الناتو” على الاراضي التركية حتى لوكانت موجهة رسميا ضد ايران، الحساسية الروسية من التأثير التركي المتنامي على تيارات الاسلام السياسي الاصولي الذي قد يعتقد الروس انه لن يغلق سوريا عليهم فقط بل سيكون في انتشاره السلطوي العربي قادرا ايضا على تجديد اضطرابات الاسلام القوقازي كما البيئات الاسلامية في عمق روسيا وسيبيريا ناهيك عن التأثير السعودي التركي الفعال في آسيا الوسطى السنية المسلمة؟ فالحساسية الروسية بعد تفتت الاتحاد السوفياتي من الخطر على “وحدة الروسيا” ميز عهد بوتين بالذات وهي ظهرت كحساسية هجومية في الازمة الجورجية فصاعدا باعتبارها صرخة “كفى” عندما اخترق “الخطر الغربي” المجال الاقليمي الروسي. لكن هذا لا يعني كما في العلاقات التركية مع ايران ان العلاقات الاقتصادية الروسية التركية ليست واسعة بل هي في الواقع مزدهرة سواء تجاريا او استثماريا او في الطاقة. فالآلة الصناعية التركية تعتمد بشكل كثيف على استيراد الغاز والنفط من ايران وروسيا (كما تبيع نصف صادراتها الى اوروبا). ايضا هل يجوز استبعاد العامل الاسلاموي من سلة الحسابات الصينية في الجزء الصيني الشاسع من آسيا الوسطى مثلما حصل خلال التسعينات عندما كان المعلقون الهنود “يغازلون” المخاوف الروسية بعد هزيمتهم في أفغانستان بالحديث الجاد عن ضرورة بناء استراتيجية موحدة بين نيودلهي وموسكو ضد الاسلام الجهادي وكانت الصين وقتها منخرطة كشريك في مساعدة باكستان خصم الهند منافسة بيجينغ على انجاز قنبلتها النووية؟
روسيا والصين دولتان تتضاءل امامهما ايران بكل مقاييس الدولة الكبيرة . لنقرأ كيف يصف فرنسيس فوكوياما الصين في مقاله في العدد الاخير من مجلة “فورين أفيرز” (كانون الاول، شباط): “التحدي الوحيد الفائق الجدية للديموقراطية الليبرالية في عالم اليوم يأتي من الصين التي زاوجت بين حكومة سلطوية وبين اقتصاد سوق جزئي”.
ويضيف: “… لهذا فان استقرار النظام الصيني لا يمكن ان يكون مضمونا”. لكن علينا ان ننتبه هنا الى ان فوكوياما يتحدث هنا عن بلد “أظهربصراحة كفاءة اعلى من القادة الاميركيين في ادارة السياسة الماكرواقتصادية راهنا”. بلد اصبح عبر ديونه لاميركا جزءا بنيويا من الاقتصاد الاميركي. هذه “منطقة” من المقارنة تحتاج ايران الى أجيال للوصول اليها… اذا وصلت.
روسيا والصين مهددتان مباشرة بـ”ربيع روسي ” و “ربيع صيني” على غرار “الربيع العربي” في وقت “القوة الناعمة” للافكار والقيم فيه هي للغرب الذي يشهد اكبر موجة من تحالف النخب العربية معه. فهل يجب ان نضيف ان الثورة السورية التي تحولت الى حرب أهلية واشتباك اقليمي ودولي عنيف تجعل الصراع على سوريا يبدو بهذا المعنى وكأنه يدور على عتبة البيتين الروسي والصيني؟
جهاد الزين
النهار