حبــة كــرز علــى كومــة قــش
سحر مندور
الصور المنتشرة في الشوارع، الكلمات التي تبخّها الراديوهات، الوجوه الخارجة من التلفزيون، جميعها تخطف الرجل والمرأة من نفسيهما، لتفرض على الأول قوة، وعلى الثانية ضعفاً، لا لتنتصر للرجل ضد المرأة، أو لتحجّم المرأة في عيني نفسها والمجتمع، وإنما هي تفعل ذلك لأن الحال كذلك، ويجب على الحال أن تبقى على ما هي عليه.
«الحزب الواحد»
الإعلانات التجارية هي جزءٌ من البروباغندا التي «تشنّها» السلطات الحاكمة، على المجتمع. والسلطات الحاكمة ليست مؤسسات الدولة فحسب، وإنما كافة نواحي «الإنجاز» الإنساني، من الدين إلى العائلة، ومن التجارة إلى الطب، ومن الأغنية إلى الإعلان. بروباغندا تعمّم صورة الحزب الواحد. فالاختلاف ما بين الأحزاب السياسية لا يطال المعادلات الاجتماعية، لأن تلك الأحزاب هي وليدة تلك المعادلات، ولن تتمرد عليها، وإنما ستمحو من الصورة كل مَن يتمرد ضدها.
ذاك المجتمع هو الوعاء الطبيعي لمؤسساته، فلن تخرج عنه. ومثلما تروّج لاستحالة استبدالها، هي تروّج لاستحالة استبداله. كل قانون يطرح على مجلس النواب لرفع ظلم أو تصويب علاقة المجتمع بالمرأة اللبنانية، يجد من ينحره، لأن القانون لن يتعدّل إلا بما يجذّر الوضع القائم، السلطة لن تُتداول إلا ما بين أقطاب الحزب الواحد، والصورة ستبرهن ذلك كله.
الإعلانات تحتفي بالمرأة الأم التي يتوجب عليها أن تستحق الجنّةً التي تنتظر قدميها، أن تنصهر بمائدتها وبعائلتها من دون أن تخسر جمالها وإثارتها، أن تنتخب لا أن تمنح الجنسية، أن تتفادى الضرب والإغتصاب لا أن تقاضي المعنّف والمعتدي، …
والرجل، في تلك البروباغندا، هو كبير قومٍ كالنائب في البرلمان، لا يغيّر بالناس شيئاً فلا يغيّروا به شيئاً. هو الذي فصّل القانون على قياس واحدٍ له، عليه أن يتأقلم ضمنه وألا يخرج عنه بخصوصية ما. عليه أن يحصد الطاعة والإحترام ولا ضرورة لأن يبديهما، هو قوي مفتول العضلات، يضرب فعلاً لكن لإصلاح خلل، يتزوج من ضحية اغتصبها لأنه يتحمّل مسؤولية أفعاله، لا يحتاج زوجة وإنما جارية، يبدي العاطفة لكن بحدود العقل، وعقله دائماً راجح لا يحتاج معونة من أحد، يحتقر الأسئلة ولا ينطق إلا بالإجابات الجازمة، …
كومة قش
لا هو حرّ، ولا هي حرّة. ومع أن «الوضع القائم» يمكن أن يصبّ في صالح هذه وفي صالح ذاك أحياناً، فإن كلاهما مسيّر، كلاهما ممنوع من الخيارات الخارجة عن التصنيف. ويأتي هنا دور الإعلانات، أي البروباغندا، لتكون حبّة الكرز على كومة قش. فهي تصنع من السائد صورةً للمشتهى، تجعل الوضع القائم حلماً مرغوباً به، تدّعي ثورةً في تقديمها الصورة التذكارية المملة لأي حكومة لبنانية تقليدية. وبذلك، هي تصنع الرغبة. الرغبة بتكريس الوضع القائم، وتكريس توازن القوى الذي يحويه، بما يبقي الحال على ما هي عليه.
وليست الإعلانات كلها نابعةً من مؤامرة واعية، وإنما يقع جزء كبير منها في خانة «الطبيعي العادي». ولذلك، يأتي رد فعل المعلن على نقد واجهه إعلانه هجومياً أحياناً. فهو لا يرى في الناقدين إلا مغالين في شؤونٍ خاصة بهم، يريدون فرضها على المجتمع، وهو سيتصدى لهم، باسمه وباسم المجتمع.
وهو في ذلك صادقٌ. فهو أولاً ينتمي إلى المجتمع القائم، وهو ثانياً يحميه.
من هذا النوع من المعلنين، تأتي الصور البريئة الطوباوية السعيدة، كتلك التي تنقّب عميقاً في قلب الأم، فتجد سرّ سعادتها الدفينة في تقشير البصل، أو تلك التي تحتضن جلباب زوجها الأبيض، بحبّ النظرة الأولى، بعدما تمكّنت برجاحة فكرها كزوجة من إعادته إلى بياضه الأول، إلى عذريتها.
في المقابل، وعلى الضفة ذاتها، يحضر نوعٌ آخر من المعلنين، يعي حجم صلاحياته، وينهل منها كلما اشتهى ذلك، وهو قادر على القتل للإبقاء عليها، غير مستعد للتنازل أو التفاوض حولها، ولمَ التفاوض طالما هي صلاحيات مسلّم له بها، ومن هو أصلاً الطرف الآخر الصالح للتفاوض معه حولها؟ إنه امتلاك السلطة، والإمعان في فرضها، لكي لا تتجرأ أي نفسٍ على التشكيك بسطوة هذه السلطة. ولذلك، توجد جريمة يعفيها من العقاب عذر «فقدان الرجل لأعصابه».. لم يكن واعياً، كان يدافع عن نفسه، إنها جريدة شرفٍ في فورة غضبٍ.
ونفسه هذه، تستأهل قتل نفسٍ ونفوس لأجلها..
من يتنازل عن صلاحية شبيهة؟
من هذا النوع من المعلنين، تأتي إعلانات تبدو المرأة فيها قاسية النظرة، إباحية متهجّمة بلسانٍ يتدلى من فمها، ككلب، أو منبطحة تلحس تراب الأرض، تتذلل وتتدلل، لتُمنح الاهتمام الجسدي الذي تحتاجه، وتعبده، كما يعبد المدمن جرعته.
ولربما وُجدت أنواعٌ أخرى من المعلنين، كالنوع الذي يعي المعادلة ويرفضها في حياته الخاصة، لكنه يكرّسها في الإنتاج البصري لأنها «مربحة». ونوعٌ يسعى للإستفادة من الجدل الذي يمكن لإعلانٍ أن يثيره، فيعرّي امرأة أو يربط عنقها بحبل.. نظراً لأن الثالوث المثير للجدل اجتماعياً هو جنس دين سياسة. وبما أن الأخيرين مقدّسان في معادلات قيام هذا المجتمع، يشتدّ الطلب على الأول، الجنس، أي المرأة، وليس الرجل. فالرجل هو القائم على الدين والسياسة، وهو صاحب رأس المال الأساسي، لا يُستخدم وإنما يَستخدِم، لا يُهان وإنما يهين.
على فكرة، لا تظهر صورة الرجل ضعيفاً متردداً في الإعلان، إلا لإحلال الطبقية داخل الجنس الواحد. فلنسخر جميعاً من الرجل الذي يعقد حاجبيه ارتباكاً أمام والدته، وهو يرتدي سروالاً مضحكاً ويبدو أحمر الإحراج جلياً على خدّيه.. فلنسخر منه، هو الضعيف العاجز عن تحمّل مسؤولياته كرجل. فلنسخر منه، وإذا تمرّد علينا، نسخر منه أكثر. أما إذا آمن بسلطاتنا فسنبقيه بالقرب منا، نحميه ويضحكنا، كحيوانٍ أليف.
فعل إنسان
هي قواعد متفق عليها، مسلّمٌ بها، تصدر عنها صورٌ متشابهة في المضمون، تخدم كبروباغندا واعية أو غير واعية للنظام القائم والحاكم، تبقي التصنيف ضيق الأفق، إما هذا أو ذاك، لأن الحرية، إن أتيحت، لن تعترف بحدود، فلنبقي الحدّ الصارم مرغوباً، فلنبقي التصنيف مشتهى. كأنك حرّ في اختيار الحدّ، كأنك حرّ في الإلتزام بالتصنيف، كأنها ماكينة تشدّ زاويتي الفم يميناً ويساراً حتى يبدو الوجه وكأنه يبتسم، تشدّهما حتى يعتاد الابتسام.
في المقابل، تأتي الثورة ضد هذا وذاك ممن لا يناسبهم العيش في هذا المجتمع، وهم يؤمنون بأن المجتمع ليس مُنزلاً، وإنما فعل إنسان، وبالتالي، يمكن للإنسان أن يتدخل لتغيير معادلاته، بحيث يضمن ولو الحدّ الأدنى من رفاه كافة الأحياء المتجاورين فيه.
لكن، ما يبدو بديهياً للثائرين، يشكّل الغرابة التامة بالنسبة إلى المتعايشين مع المجتمع بحبّ، أو بخشية، أو بانتهازية. سينظرون إليك كموبوءٍ يسعى لتخريب التــوازن القائم منذ الأزل، وسيعالجونك إما بالسخــرية أو بالعنف. لا بد من التخفّف منك، لأنك تسـعى لإقلاق «الحضارة».
وهم لا يعرفون من تاريخ الإنسانية إلا ما يرونه اليوم منها، ولا يريدون إلا المزيد مما يؤمنه الحاضر لهم. فمنهم من يخشى التغيير، لأنه سيأتي بالمجهول، بينما السائد معروف، دعنا نتأقلم معه. ومنهم من أدمن اليأس بعدما رأى الشذوذ، فتعلّم غض النظر، تعب في مجتمعٍ الجماعة فيه تلغي الفرد، فلم يوجد لنفسه جماعة، وإنما ركناً هادئاً أمام التلفاز، يشاهد الأفلام لا الأخبار، وينام بانتظار يوم آخر. ومنهم من يرفض التغيير علانية، ويقف بوجهه، ويجرّم طالبيه، ويتهمهم باعتناق الفوضى مذهباً، وهو مستعد لأن يقبض براحتيه على عنقك، إن بالقانون أو بالإعلام، ليهينك، ويبعدك عن حظيرته.. كأي رئيس عربي يعتبر نفسه قوّاماً على الناس فينفيهم من الحياة.
إن للوضع القائم من يحميه، وهو الأقوى بلا أيّ شك. وبلا أي شكّ أيضاً، تروّج الإعلانات المنتشرة في الشوارع لهذا الوضع القائم تحديداً، وليس لهامبرغر أو برّاد أو جينز ضيّق.
هي تعلن عن الوضع القائم، وتبشّر باستمراريته.
تملأ عيون الناس وزوايا حياتهم به، ليبقى بديهياً كشرب الماء.. وإن لم تشرب الماء، تمُت.
السفير