حدود مسؤوليتنا في جنوح الغرب نحو التطرف والعنصرية!/ أكرم البني
ثمة ما يتغير اليوم في الغرب، حيث تتصاعد الدعوات للانعزال والتقوقع، محفوفة بجنوح الرأي العام نحو التطرف والعنصرية، وبتراجع القوى الليبرالية لمصلحة قوى يمينية شعبوية، بعضها نشأ حديثاً وبعضها الآخر عزز حضوره وقاعدته الاجتماعية وانتزع دوراً مقرراً في الحياة السياسية، متوسلاً شعارات انتخابية وبرامج تفوح بالأنانية والغلو في إظهار التميز القومي والمبالغة في التركيز على قضايا الأمن والهجرة والإرهاب، مهدداً مقومات النسيج المجتمعي والثقافي ومنظومة القيم الإنسانية والحضارية، كترامب أميركا، وقادة الانسحاب البريطاني من أوروبا، ثم لوبين فرنسا، وحزب البديل في ألمانيا وأشباهه في النمسا وفنلندا والسويد وهولندا وهنغاريا.
جنوح الغرب نحو التطرف ليس ظاهرة جديدة، بل تكررت في غير محطة تاريخية، أهمها الصعود المريع للنازية والفاشية في ألمانيا وإيطاليا قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، لكنها تختلف هذه المرة، بأنها تتم في ظل ثورة الاتصالات والنقل المباشر، ولا تقتصر أسبابها على الأزمة البنيوية الداخلية. والحال، لا يخطئ من يرجع هذا الجنوح إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية في أهم الدول الغربية، وتحميل سياسة العولمة والانفتاح على الآخر، المسؤولية في تراجع النمو وحركة الاستثمار وفرص العمل وتزايد نسب البطالة والضائقة التي يعانيها الناس، ما أدى إلى انتشار نوازع الإحباط والرفض وتالياً التطرف والعنصرية، بخاصة بين أبناء الطبقات الوسطى الذين باتوا يجدون أنفسهم أمام حالة من انسداد الأفق ويشعرون بأن فرص الحفاظ على شروط حياتهم باتت مهددة. مثلما لا يجانب الصواب من يربط الجنوح بانهيار النظام الدولي، وتداعي البنية القانونية والشرعية التي نهض عليها، وعجزه عن التدخل في مسارات النزاعات الأهلية بأهوالها وفواجعها، تحدوه سلبية مقيتة للنخب السياسية الغربية وانحسار شعورها بالمسؤولية في موقفها مما يحدث من مجازر وانتهاكات، وتحديداً في منطقتنا العربية، مقابل تحرر أيادي موسكو وطهران لتعيثا فتكاً وتنكيلاً بهدف تحسين مكاسبهما ونفوذهما، ما أفضى موضوعياً إلى انحسار النزعة الإنسانية والقيم الكونية المشتركة لدى فئات مجتمعية غربية واسعة، وتالياً انحسار الدافع الأخلاقي الذي يحصن البشر من الانحلال والتطرف ويحضهم على رفض التمييز والقتل والاعتقال والتجويع، ممهداً التربة لإحياء الملاذات والروابط الإثنية والدينية والمذهبية، وظهور تيارات شعبوية عنصرية معادية لكل ما هو تقدمي، ديدنها مناهضة شعارات التنوير وقيم المواطنة وحقوق الإنسان.
ويبقى ثمة عاملان يتعلقان بنا كمجتمعات عربية وإسلامية، ويحددان مسؤوليتنا من ما يحصل، إن لجهة تصدير الإرهاب الجهادي ليعبث بأمن واستقرار الدول الغربية ويطال بأذاه المواطنين الأبرياء، متخذاً صوراً بدائية شتى من الأعمال الانتحارية التي يصعب كشفها والحد منها، وإن لجهة إطلاق موجات واسعة من اللجوء والهجرة غير الشرعية التي باتت تضغط على الغرب وتهدد استقراره. التطرف الإسلاموي الذي ينعكس بأعمال إرهابية وإجرامية، يولد بلا شك تطرفاً غربياً ينعش مفهوم صراع الحضارات وتصنيفه العالم إلى ثقافات متناقضة ومتحاربة، ويغذي الأحزاب اليمينية المتشددة معززاً بيئتها الحاضنة ورغبتها في الوصول الى الحكم وتغيير القوانين والسياسات، يحدوها تأجيج مشاعر العداء للمسلمين المهاجرين والكراهية للاجئين، والطعن بقدرتهم على الاندماج في المجتمعات الغربية واحترام نمط حياتها. ألم يستثمر دونالد ترامب قلق الأميركيين من فقدان وظائفهم لمصلحة المهاجرين، ثم خوفهم من خطر الإرهاب بعد العمليات الانتحارية التي تبناها تنظيم «داعش» في غير بلد غربي؟ وألم تفضِ هذه العمليات إلى تغيير في النظام الأمني الغربي، إلى حد إعلان حالة الطوارئ في غير دولة واستنفار شبه دائم في غالبية الدول، والأهم إلى مزيد من القيود والإجراءات الأمنية ومزيد من القوانين المشددة ولو على حساب حقوق الإنسان وقواعد الديموقراطية؟!
ونعترف، ضمن حدود مسؤوليتنا عن تصاعد التطرف والعنصرية في الغرب، بعجزنا حتى الآن كمجتمعات عربية وإسلامية عن معالجة أسباب التطرف الذي ينشأ في ربوعنا ويمتد ليهدد العالم ككل، وبأن الخصوصية البنيوية لعقلنا وأخلاقنا السياسيين والتي لا تقيم وزناً لحياة الإنسان وحقوقه، فتحت على عنف وصراعات مريعة أغرقت العالم بالمهاجرين الهاربين من أتون القتل والخراب. ونعترف تالياً، بأننا لم نقم بما يكفي لمعالجة أهم الأسباب التي شجعت انتشار الفكر الجهادي وأضرمت النار في هشيم الإرهاب وساهمت في دعمه، إن في مواجهة فساد الأنظمة واستبدادها وعنفها وإن في معالجة التخلف المزمن لمقومات النهوض السياسي والأوضاع التنموية المذرية التي خلفت جموعاً غفيرة يكويها الفقر والجهل، فضلاً عن التقصير في تعرية حمى الصراع المذهبي البغيض ومحاصرة محاولات توظيفه سياسياً في منطقتنا، والأهم تأخرنا إلى اليوم في بناء وتعميم خطاب صحي يدحض عقلنا السياسي المفعم بتنافس مرضي على الهويات الأيديولوجية وصور الالتزام الأعمى بها والذي سوغ بادعاءاته القومية والوطنية دوام الاستبداد واستقراره، ثم تأخرنا في نزع صاعق تفجير الصراعات المذهبية بفصل الدين عن الدولة وبناء رؤية للإسلام تتناغم مع متغيرات العصر، وتسحب البساط من تحت أقدام جماعات مارست وتمارس الإرهاب باسم الدين.
ربما ينجح جنوح الغرب نحو التطرف والعنصرية في جر البشرية إلى ماضيها المؤلم، إلى دورة جديدة من الكراهية والحقد، وإلى المناخات التي تسوغ قمع وقهر الآخر المختلف، وتبيح أية ممارسة مهما انحطت أخلاقياً ما دام أصحابها يعتقدون بأنها تفضي الى حماية حيواتهم وخصوصيتهم الثقافية، لكنه لن ينجح، كما أكدت تجارب التاريخ، في تحقيق النتائج المرجوة، لجهة ضمان أمن البشر وحاجاتهم وما يطمحون إليه، ولجهة تجاوز الأزمات والاختناقات التي يعيشها المواطن الغربي هذا إذا لم يفاقمها، لتبقى الفرصة سانحة أمام مجتمعاتنا لتحمّل مسؤوليتها في معالجة الدوافع الموضوعية والمعرفية لنشوء الإرهاب، وعاجلاً، الضغط لوقف العنف وتشجيع حلول سياسية للصراعات الدموية القائمة بما يلبي حقوق الناس ويحاسب المرتكبين ويحاصر التطرف ويخمد موجات الهجرة واللجوء.
* كاتب سوري
الحياة