حراسة الأباطيل: البندوق/ عزيز تبسي *
البندوق تعبير كان قد استخدم في وصف نوع من العصافير الهجينة، وفي تلطيخ سمعة أطفال لا ذنب لهم سوى أن آباؤهم لا يعترفون بأولادهم… لتنتقل بعد عهود، إلى وصف أنماط من التذاكي والتشاطر، وهي تنتقل بأصحابها بين المواقع المتناقضة في ولائها وقيمها.
وهي باتت ترتبط عن غير حق بالذكاء العملي، المتحرر من مثاقيل الالتزامات السياسية والاجتماعية وأطرهما الأخلاقية الملائمة، وأضحت تطالب بلغة الإيحاءات والإشارات بالتعاطف مع هؤلاء «البناديق»، وكأنه إقرار بأن الحياة، وتعقد خياراتها وصراعاتها الحادة والدامية، قد تحولت إلى مهرجان لألعاب الخفة والمخابثات، ولم تلبث أن أدرج استخدامها في حضور حاملها لا في غيابه «يا لك من بندوق!!» في استحسان علني لهذه الخصيصة، وإقرار باستثنائية حاملها.
لكن هذه الكائنات الموصوفة بالهجنة، تفتقر إليها تماماً. فهي ليست منتوج لتلك التنقيحات الوراثية التي أنتجها التزاوج بين الكلاب والذئاب، أو بين الحمير والخيول. بقيت منتجاً أصيلاً للأنماط السلطوية المتعاقبة، وبينت الوقائع أنها لا تحتاج إلا لكتائب من كلاب الحراسة الجدد، تنبح على الدوام وتهزّ ذيولها كذلك، وتتهيأ للانقضاض على الأعداء، وبث الرعب في قلوبهم.
ويُحدّث هؤلاء من حين لآخر، بالأصالة عن أنفسهم وبالنيابة عن سواهم، وهو باب من أبواب اللهو والتهريج الذي لا يتقنوا سواه، عن ضرورة نزول المثقفين (كناية عن الصحافيين والإعلاميين) من أبراجهم العاجية، بافتراض لاهٍ عن إقامة المثقفين أو بعضهم في تلك الأبراج. ودون التوضيح كذلك للأهمية المرتجاة من نزول أولئك المثقفين منها. أي ما الذي سيفعلونه بعد نزولهم المظفر ذاك.
دون الإقرار بحقائق باتت أشبه بالبداهة، أنّ ما من أبراج عاجية يقطن فيها المثقفون، بل أغلبهم يقطن في بيوت مستأجرة قليلة المساحة متواضعة الأثاث، في الأحياء العشوائية التي تزنر المدن كقدر تاريخي منذر. وأغلبهم كذلك ليس بعيداً عن رجالات سلطة بلده أو عن رجالات سلطات البلدان المجاورة، أو عن سفارات الدول الغربية، يتفيأ في ظلالهم ويضرب بسيفهم وينتظر وعودهم في منزل لائق ومكتب يذل من خلاله سواه من القوافل التي ينتجها الفائض السكاني، المأخوذة بأحلام الارتقاء الاجتماعي وحيازة السلطة المعنوية، التي لا تجد ضالتها سوى في العواصم، حيث التمركز والانتفاخ الطفيلي للسلطة ومؤسساتها.
فقد هؤلاء المثقفون الافتراضيون حسهم النقدي أو تخلوا عنه، ورموا جانباً بحثهم الجاد عن المشروع البديل، وكفاحهم من أجل تمكينه جزئياً أو كلياً. يتبلدون في هذه الإقامة المتواطئة، التي باتت تدفع لتسميتهم بـ«المجاورون الجدد» تمييزاً عن المجاورين القدامى من المجتهدين من أبناء الفلاحين، المندفعين إلى المدن في القرون الماضية، لمجاورة زاوية مسجد أو ضريح لأحد أولياء الله الصالحين… منه يأخذون القوة والمناعة والكفاءة وحسن الطالع.
المسألة اليوم باتت أعقد، وتحتاج لجرعة من «البندقة»، حيث قلّت الحاجة إلى أعين وآذان في أوساط المثقفين، ربما لأن السلطات قد تبينت حدودهم، ولأنها أطبقت منذ زمن طويل خناقها على ما هو أوسع منهم، أي المجتمع برمته. لكنها تحتاج من حين لآخر الى من ينتج كلاماً يتجاوز وظائف ورق المراحيض وحفاضات الأطفال.
عانى «المجاورون الجدد» من مشكلة أساسية، أن السلطات التي اعتمدتهم للمساهمة في صناعة الرأي العام وللدفاع عنها ورتق فتوق خطابها الأيديولوجي ومنحها الفرص تلو الفرص لتجديده، لا تملك مشروعاً سياسياً أو اقتصاديا أو تنموياً أو ثقافياً، سوى الاحتفاظ بالسلطة السياسية، باستخدام كل الوسائل الممكنة والمتخيلة، وهي الاسم المحايد لحزمة من الامتيازات الاحتكارية التي بحيازة أقلية سياسية، مما زاد في مشقة عملهم وخيالهم الضامر. لكن لا بأس من حرية النباح الدائم، وإحياء أكبر كمية من الموضوعات الفكرية الميتة، التي باتت من منسيات رجالات السلطة منذ زمن طويل، من نمط الرسالة التاريخية للأمة، والصوفية السياسية التي تجمع القائد بشعبه، والإرادة الشعبية التي تنبثق عنها السلطات، والأعداء التاريخيين، والتمازج بين العروبة والإسلام الحضاري، ناهيكم عن العلمانية والمدنية اللتين باتتا بحاجة لوسائط تفسيرية تخص العالم العربي لفرط إخراجهما عن نسقهما الذي أنتجه الكفاح الملحمي للشعوب الأوروبية وجذرته في تاريخها العمومي.
ويتقدم نمط آخر من المثقفين – البناديق، كالمحامين والقضاة الذين يعتاشون على خديعة متممة لسابقيهم، بكونهم حراس القيم والأعراف والقوانين والمبادئ، حيث تتطلب مهنتهم قول الحق، كتعبير مجازي عن القوة العليا التي تُدمي الباطل، وتزهق روحه. لكن يتبين أن هؤلاء ليسوا سوى مرافعين جديين عن اللصوص والقوادين ومهربي المخدرات وسارقي الأراضي الزراعية وحارقي الغابات، وخدم دائمين للقتلة، يستعينون بقوانين مطواعة، وبالقوة العليا لرجالات الظل الذين يقبضون بأيد فولاذية على السلطة المسماة بنمط مستحدث من الضحك على اللحى، السلطة القضائية.
يعتمد هؤلاء على التمسك بشكليات حازمة، تعبر عن السلطة التقليدية التي بحراستهم منذ الأبد، كإبقاء الذقن بلا حلاقة كناية عن الالتزام الديني، ويدلقون على ثيابهم العطور، ويحملون سبحات طويلة، يدورون حبيباتها بإشارة عميقة أن الزمن الذي يُحامون عنه، دائري ولن ينقطع دورانه حول نفسه، إلى الأبد، هو عينه أبد مصالحهم وامتيازاتهم.
في زمن يبشر بتحولات ثورية، يحار هذا النمط من المثقفين – البناديق في تنظيم ولاءاتهم والكيفيات التي سيوزعونها بها، فهم نشأوا لإشغال متممات وظيفية محددة كـ«صناع للرأي العام» و«حراس للقيم العليا». لكن غريزتهم الانتهازية، ناهيكم عن المهام التي يكلفهم بها أولياء نعمتهم، تسقطهم في أوحال الارتباك… ماذا لو فشلت السلطة في الاحتفاظ بمواقعها؟ وماذا لو فشلت المعارضة في الوصول إلى السلطة؟ ينتقل قسم منهم إلى مواقع المعارضة التي باتت تجتهد لإعادة تدوير النفايات الأيديولوجية للسلطات الحاكمة، علها تكتسب صلاحية الاستخدام في الحقل الثوري. ويبقى قسم منهم في مواقع السلطة يلوك حصى الكلام ونفاياته، ويتبادلون الاتهامات فيما بينهم من تلك الجمل المكررة التي يتبادلها السكارى في الحانات، عن العلاقات بالأجهزة الأمنية، في إشارة لتلك الحالة المتأصلة بينهم، التي أضحت لها خصائص العادات الرديئة، كما هو حالهم من عقود ماضية، كأن يشتموا الأنظمة النفطية الخليجية وهم جالسون في مكاتب يمولها النظام النفطي العراقي أو الليبي، أو العكس، ويشتم الأولون الآخرين على أنهم أزلام مخابرات بينما هم جالسون في أحضان أجهزة مخابرات بلد مجاور.
نادرة إطلالات المثقف النقدي، فضلاً عن المثقف الثوري. يستولي هؤلاء البناديق، بوصفهم التعبير الأيديولوجي عن أنماط سلطوية متباينة، فضلاً عن خصائص احتكار الكلام باسم شعب يجهلونه ويتجاهلهم، مسنودة بمافياوية رعاعية جعلت منهم قوة احتلال جديدة للحقول الإعلامية، تساندهم بتفاهمات غير محجبة، قوى سياسية – مالية هي التعبير الرخو عن تعاقبية سلطات الاستبداد ومصالحها الصلبة.
* كاتب من سوريا
السفير