حرب أهلية؟
زياد ماجد
تتوزّع العديد من الصحافيين والباحثين والديبلوماسيين، منذ أشهر، نزعات تصنيفية “للأحداث السورية” بوصفها حرباً أهلية أو قتالاً مذهبياً أو صراعاً على السلطة.
وإن استثنينا سيّئي النوايا من مستخدمي هذه “التصنيفات”، وهم غالباً من مؤيّدي النظام السوري الذين يُحرجهم البوح بتأييده مباشرة فيعمدون الى نفي صفة “الثورة” عن “الأحداث” واعتماد ما يدلّ على سويّة بين طرفين في نزاع، يبقى علينا أن نناقش “عديمي النوايا” في ما يعتمدونه من مفردات وتصنيفات.
وهذا يتطلّب ربما تذكيراً بما ينساه كثر عن فعاليات الثورة السورية ومساراتها، ونقاشاً لمؤدّيات الحديث عن “الحرب الأهلية” المُسقطة عليها.
فالثورة السورية في شقّها الشعبي المدني الذي أطلقها، وكان وجهها الأوحد طيلة أشهر في وجه آلة القتل النظامية، ما زالت مستمرة، من المظاهرات والاعتصامات اليومية الى الشعارات على الجدران وتحطيم التماثيل، مروراً بتوزيع المنشورات وإصدار الجرائد، وصولاً الى المبادرات التضامنية والإبداعات الفنية وتحرير الذاكرة من القمع والخوف. والعسكرة التي بدأت دفاعاً مشروعاً عن النفس من منشقّين رفضوا أوامر القتل ومتطّوعين تلاقوا للقتال حماية لمدنهم وبلداتهم، لم تتحوّل الى حرب مع قوى أهلية “غير- دولتية” أخرى، إذ بقي القتال (الى الآن على الأقل) قائماً مع جيش النظام. وحتى حين زجّ هذا النظام بالشبيحة (بما هم تكوين ميليشياوي أهلي) لقمع خصومه وذبحهم، لم نرَ ردود فعل تُفضي مذابح في القرى التي يتحدّر الشبيحة منها أو يرتبطون بها. وهذا لا ينفي بالطبع ممارسات إجرامية أو طائفية يقوم بها بعض حاملي السلاح الى جانب الثورة أو داخلها. كما أنه لا ينفي الانقسام العامودي في المجتمع السوري وتركّز الثورة في جغرافيا ذات أكثرية ديموغرافية معيّنة. لكن القول في ذلك في معرض الحديث عن ثورة شعبية تحوّلت الى الكفاح المسلّح ضد نظام استبدادي شيء، والحديث عن حرب أهلية بين معسكرين شيء آخر. ذلك أن الوضع الثاني يعني بالنسبة لدول العالم ومؤسساته تعاملاً مع صراع مسلّح بين طرفين داخل دولة ما، يتنافسان على سلطة أو نفوذ أو أرض أو ثروات وموارد، وكأن واحدهما ليس حُكماً دكتاتورياً منذ 42 عاماً، تملك الثورة الشعبية عليه كل المقوّمات الاخلاقية والقانونية لقيامها، بوصفها توقاً للتحرّر وليس فتنة أو جرائم مضادة.
على أن الأخطر من الإطاحة اللغوية والسياسية بمفردة “الثورة” كتسمية للحراك الشعبي والكفاح المسلّح في سوريا اليوم، هو تداعيات التسمية البديلة أي “الحرب الأهلية”. فهي إن فُهمت من وجهة نظر “اللجنة الدولية للصليب الأحمر” كمسوّغ يسمح بتدخّلها (وهي هيئة لا تعمل إلا في حالات النزاع المسلّح وفق اتفاقيات جنيف وملحقَيها)، إلا أنها تعني من منظار مبادرات “حلّ النزاعات” مثلاً أو مفاوضات “المصالحات الوطنية” مساواةً بين الأطراف وشراكة أو تنازلات متبادلة من قبلهم للوصول الى الحلّ. وبهذا، يمكن لحُكم الأسد أن يصير مساوياً لخصومه في الحرب، ومن الضروري للوسطاء – أمماً متحدة وحكومات ومؤسسات إقليمية ودولية – التعاون معه للوصول الى اتفاق سلام يُنهيها ولا يُقصيه بالضروة عن الحكم. وكل ذلك مناقض لفلسفة الثورات وللمواقف القيمية والقانونية تجاهها…
إن ما يجري في سوريا ما زال “ثورة”، ولعله الثورة الأعظم (والأصعب) في العالم منذ الثورة الفرنسية. ثورة انطلقت لتغيير حكم جائر وفاسد ومُطلق مستمرّ منذ عقود، بمعزل عن الملابسات التي يمكن أن ترافق انطلاقها وتطوّرها نتيجة الأضرار التي أحدثها الحُكم إياه في المجتمع على مدى عقود استبداده. وكل تعجيل في إسقاطه يقلّص من رقع الأضرار التي يسبّبها ويحدّ من احتمالات الفوضى والتفكّك و”الحرب الأهلية”…
لبنان الآن