صفحات العالم

حق العودة” إلى مخيم اليرموك

 

                                            ماجد كيالي

صارت حادثة طائرة “الميغ” التي قصفت جامع عبد القادر الحسيني ومدرسة الفالوجة في مخيم اليرموك يوم 16/12/2012، ثم سيطرة “الجيش الحر” على المخيم وخروج سكانه منه خوفاً من انتقام النظام، حدثا بارزاً في تاريخ هذا المخيم، وفي التاريخ المأساوي للاجئين الفلسطينيين، وفي تاريخ ثورة السوريين الأكثر كلفة بين الثورات العربية قاطبة، وفي تاريخ العلاقات السورية الفلسطينية.

فوق كل ذلك، ومن منظور الصراع السياسي الدائر في سوريا وعلاقة الفلسطينيين فيه، فإن ما حصل أحدث خرقا في الفكرة التي مفادها تجنيب مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في هذا البلد المخاطر الناجمة عن الصراع الضاري الذي بات يأخذ شكل الصراع المسلح بين النظام وفصائل “الجيش الحر”، وهي فكرة حاول الفلسطينيون في المخيمات تكريسها طوال العامين الماضيين من عمر الثورة السورية، سواء في طورها السلمي أو بعدما جرت عليها تحولات نحو العسكرة والعنف والصراع المسلح.

السؤال الآن وعلى ضوء الحديث عن ترتيبات وتسويات وتوافقات بين الأطراف المعنية لعودة أهالي مخيم اليرموك إلى بيوتهم: هل ما زال بالإمكان تكريس فكرة تحييد المخيمات عن الصراع الجاري في سوريا؟ وهل يمكن للأطراف الفاعلة والمتصارعة أن تقبل بذلك؟ وهل ثمة ضمانات لهذا الأمر حقا؟

من جهة الفلسطينيين والكيانات السياسية الفلسطينية، وعلى ضوء هول ما حصل، يبدو أن هذا هو المخرج الوحيد الذي يمكن التمسك به لتجنّب نكبة ثانية، والحفاظ على سلامة الوجود الفلسطيني في سوريا، وتخفيف معاناة الفلسطينيين الذين هم مجرد لاجئين في هذا البلد -من الناحية القانونية- رغم كل الحديث عن الأخوة القومية وغير ذلك.

وعلى العموم فإن هذا الخط، أي خط تجنيب المخيمات الصراع المسلح، أكدته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل المنضوية في إطارها منذ اندلاع الثورة السورية، وهو ما التزم به الفلسطينيون في جميع المخيمات المنتشرة في المدن السورية.

المشكلة هنا أن ثمة طرفا فلسطينيا بعينه يشتغل على عكس هذا التوجه، وهو الأمين العام للجبهة الشعبية-القيادة العامة أحمد جبريل الذي خرج عن هذا الإجماع الوطني الفلسطيني، وتسبّب في إقحام الفلسطينيين في مخيماتهم في الشأن السوري، بتصريحاته المتكررة والمتعلقة بانحيازه الصريح إلى جانب النظام، واعتبار الثورة السورية بمثابة مؤامرة على النظام القومي الممانع الذي يرأسه بشار الأسد، من غير مبالاة لمعاناة السوريين ولا لما يتعرضون له من قتل وتهجير وتدمير في الديار والعمران، وكأن قضية التحرير تتناقض مع قضية الحرية!

طبعا لم يكتف جبريل بإعلان مجرد موقف سياسي، وهذا حقه بغض النظر عن سلامة هذا الموقف وصحته من عدم ذلك، وإنما المشكلة الأكبر هنا أنه ترجم هذا الموقف من الناحية العملية على الأرض، في محاولته أخذ المخيمات عنوة إلى صف النظام السوري عبر دعم جماعات الشبيحة وتشكيل ما أسماها “اللجان الشعبية” في مختلف المخيمات.

وهكذا وضعت الجماعات المسلحة التي أقامها جبريل يدها على مخيم اليرموك، وباتت تضيق على النشطاء السوريين في الأحياء المجاورة له، علما بأن المدخل الوحيد لتلك الأحياء (التضامن والحجر الأسود والتقدم) هو من مخيم اليرموك. الأخطر من ذلك ما قيل عن قيام هذه الجماعات باعتقال نشطاء معارضين أو من مقاتلي الجيش الحر، وفوق ذلك تقديمهم الدعم والتغطية لقوات الأمن السوري في مهاجمتها للأحياء السورية المجاورة من مخيم اليرموك.

على ضوء ذلك يبدو من الصعب التكهن بإمكان قبول جبريل بتمرير هذا الاتفاق لأن أوساط جبهته نفت التوصل إلى اتفاق أصلا، الأمر الذي يفرض إيجاد نوع من إجماع فلسطيني بهذا الشأن يحسم في مسألتين: أولاهما نزع سلاح الجماعات المسلحة التابعة لجبريل أو إخراجها من المخيم، والثانية نزع الغطاء الوطني الفلسطيني عن جبريل ومن لف لفه.

لكن هذا كله لم يكف بالنظر إلى تبعية جبريل للنظام السوري، وعليه فإن هذا الأمر سيبقى مرهونا بما يريده النظام، وما إذا كان سيدفع جبريل إلى احترام التوافق في المخيم لتأمين عودة سكانه إلى بيوتهم.

هذا بدوره يقودنا إلى الحديث عن حقيقة موقف النظام من هذه المسألة، وضمنه إمكان موافقته حقا على الإقرار بحيادية المخيمات، والرضوخ لمطلب إخلاء المخيم من المظاهر العسكرية ومن الأعمال المسلحة.

في هذا المجال ليس في سيرة النظام ما يشي بالوفاء بتعهداته، فقد سبق له أن وافق على التهدئة في مناطق سورية معينة مثل الزبداني ودوما وداريا في دمشق مقابل خروج “الجيش الحر” منها، لكنه بعد خروج الحر كان يحنث بتعهداته ويقصفها تمهيدا لدخولها وارتكاب مذابح فيها.

طبعاً، لا يمكن التكهن بالمستقبل، وتكرار تلك الأمور غير مؤكد، لكن ينبغي الحذر لأن النظام الذي يقتل شعبه ويدمر عمرانه لا يهمه أن يقتل فلسطينيين ويدمر مخيماتهم، وهو له سيرة من هذا القبيل في لبنان خلال عقد السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كما في قصة نهر البارد التي تسببت فيها “فتح الإسلام” التي كانت إحدى إفرازاته وخيالاته وخططه الإجرامية والمريضة.

وما ينبغي الانتباه إليه هنا أن التقرير بأمر التسوية والتوافقات وتحييد المخيم، وتمكين الفلسطينيين من العودة إلى بيوتهم، تتجاذبها مسألتان متناقضتان: الأولى أن النظام ربما لن يسمح بوقوع المخيم خارج سيطرته، لأن ذلك قد يكون دافعا لخروج مناطق إستراتيجية جديدة قريبة من المخيم وأخذها لصالح الجيش الحر، وهو ربما ما يجعله مستعدا لارتكاب حماقات لإعادة سيطرته على المخيم.

أما المسألة الثانية فتتعلق بواقع أن النظام لم يعد -على الأرجح- يمتلك الكثير من موارد القوة للدخول في معارك ميدانية، فهو منذ أشهر لم يقدر على استعادة مناطق تخرج من نطاق سيطرته، مما يفسر قصفه لها بالمدفعية والطائرات، وربما أنه بات يتعمّد الاقتصاد في موارد قوته كي يدافع عن وجوده في مرحلة آتية.

القصد من كل ذلك القول بأن حظ هذا الاتفاق من النجاح مثل حظه من عدمه، وهو ما ينبغي التنبه إليه والتعامل مع هذه الخطة بنوع من اليقظة والحذر، والتنبه إلى أي احتمال كان، صونا لحياة الناس، مع التأكيد على أولوية عودة اللاجئين إلى مخيمهم وبيوتهم وممتلكاتهم وحياتهم.

يبقى في هذا الإطار واقع “الجيش الحر”، لكن قبل الحديث عن ذلك تنبغي الإشارة إلى أن الحراك الشعبي المعارض في سوريا -وقبل نشوء هذا الجيش- لم يعمل البتة على الزجّ بالمخيمات في هذا الحراك، حتى إن المظاهرات الشعبية والسلمية التي كانت تجري قرب بعض المخيمات كانت تتحاشى دخولها، رغم أن عشرات الأمتار فقط تفصلها عن ذلك، مراعاة لوضع الفلسطينيين واحتراما لقرارهم تجنيب مخيماتهم الدخول على خط الثورة السورية.

طبعا ثمة فلسطينيون دعموا الثورة السورية وانخرطوا في فعالياتها ولكن خارج المخيمات، وباعتبارهم لذاتهم مثلهم مثل السوريين في المشاعر وفي الآلام والآمال، وليس باعتبارهم حالة فلسطينية مستقلة في الثورة السورية، علما بأن الفلسطينيين لا يشكلون شيئا وازنا في معادلات الصراع الجاري، إذ إن نسبتهم إلى السوريين تعادل نحو 2 أو 3% فقط.

وعلى العموم فبعد التحولات التي حصلت في الثورة السورية نحو العنف والعسكرة والصراع المسلح كردة فعل على عنف النظام، حصلت مشكلات كثيرة، لا سيما أننا إزاء ثورة شعبية وعفوية ليس لها أطر منظمة ولا برامج واضحة، خاصة أن “الجيش الحر” ليس جهة منظمة لها هيكلية وقيادة موحدة، وإنما هو يتشكل من مجموعات من المنشقين من الجيش النظامي ومن مقاتلين من الأحياء الشعبية التي تعرضت لعنف النظام، مع تشكيلات أخرى صغيرة لكنها ذات هويات دينية.

فوق ذلك فإذا كانت الثورة تتضمن بعض الفوضى والمزاجية، فإن الثورات المسلحة بالذات -لا سيما غير المنظمة- ينجم عنها أيضا مشكلات وارتهانات وتوظيفات وتظلمات، كما ينجم عنها تشققات مجتمعية وسلوكيات عنيفة وممارسات مزاجية، وكلها قد تضر الثورة ومساراتها ومقاصدها.

القصد هنا الإشارة إلى أن “الجيش الحر” ليس فوق النقد، فله ما له وعليه ما عليه مثل كل مكونات الثورة السورية، مع ذلك فإنه في قصة مخيم اليرموك أظهر طوال الفترة الماضية نوعا من الصبر على ممارسات جماعات جبريل ضده، وربما كان بإمكانه إبداء المزيد من الصبر بدلاً من تعريض المخيم لهذه الحالة المأساوية.

طبعا لا يمكن لأحد التقرير عن أحد وضمنه “الجيش الحر”، لكن ثمة أسئلة تطرح نفسها هنا، من مثل: هل كان ما حصل خياراً بين خيارات، أو ممراً إجباريا لاستهدافات معينة تالية؟ وما الذي اضطر “الجيش الحر” لمثل هذا العمل؟ هل تسرّع؟ هل استدرج؟ هل ثمة أطراف أخرى دفعت نحو ذلك، وبالتالي نحو إثارة الإشاعات لتفريغ المخيم من سكانه؟ وماذا بعد دخول هذا الجيش إلى مخيم اليرموك؟ ومن الذي يتحمل مسؤولية تشريد مئات الألوف من الفلسطينيين والنازحين السوريين الذين لجؤوا إليه للاحتماء به، بعدما تركوا بيوتهم التي تعرضت للخراب والدمار؟

هذه تساؤلات تطرح نفسها رغم الإقرار بأن جماعة جبريل والنظام من ورائه هم الذين يتحملون أساسا مسؤولية استدراج “الجيش الحر” إلى مخيم اليرموك، وضمنه مسؤولية إقحام مخيم اليرموك في الصراع العسكري الدائر في سوريا وتشريد سكانه.

الآن، هل سيسير “الجيش الحر” في اتفاق التسوية، أو بالتوافقات المطروحة التي تم التصريح عنها بشأن الخروج من المخيم والعودة إلى نهج تحييده؟ هل هذا الذي سيحصل أم أن في الأفق شيئا آخر؟ ثم ألا ينبغي التصرف وفق اعتبار مفاده أن عودة الفلسطينيين إلى مخيمهم وبيوتهم مكسب للسوريين وللثورة السورية، بقدر ما هو مكسب للفلسطينيين، لا سيما أن المخيمات الفلسطينية -وأهمها اليرموك- كانت بمثابة ملاذ آمن لمئات الألوف من النازحين السوريين الذين وجدوا فيها الرعاية والأمان والطمأنينة، بعد كل ما حاق بهم من ويلات وعذابات نتيجة إرهاب النظام وبطشه؟

يبقى أن نشير إلى أن الفلسطينيين دفعوا ثمنا باهظا في الثورة السورية -مثلهم مثل السوريين- نتيجة عسف النظام وسياسة العقاب الجماعي والقتل الأعمى التي ينتهجها، فقد لقي نحو 700 فلسطيني مصرعهم برصاص النظام -أي برصاص قوى الأمن والشبيحة- وبقذائف المدفعية، وكان نصيب فلسطينيي اليرموك وجواره (الحجر الأسود والتضامن) نصف هذا العدد من الشهداء، ناهيك عن الدمار الذي لحق بأجزاء كبيرة في مخيمات اللاجئين في اليرموك ودرعا واللاذقية وحمص.

 في الأخير يمكن القول إن الأمل سيظل معقودا على مواصلة الجهود والضغوط على مختلف الأطراف لتمكين الفلسطينيين من العودة إلى مخيمهم، وإن هؤلاء سيظلون مع حلمهم وأملهم بالخروج منه لكن إلى فلسطين، وهذا هو معنى حق العودة.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى