إياد الجعفريصفحات المستقبل

حرق الكساسبة: نظريات بُعثت/ إياد الجعفري

 

 

 

تثير ردّات فعل النظام السياسي الأردني، المتوالية والسريعة، تجاه عملية حرق الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، الكثير من التساؤلات، بدءاً من الفيديو الذي أنكره والد الطيار والذي يتهم فيه طيارة إماراتية باستهدافه، مروراً بإعدام ساجدة الريشاوي وزميلها العراقي الآخر، والأبرز، الردة العكسية باتجاه تعزيز دور الأردن في التحالف العسكري ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، بنفسٍ ثأريٍّ هذه المرة، يستغل العقلية العشائرية السائدة في الأردن.

ردة فعل النظام الأردني، والتصريحات التي صدرت عن مسؤوليه، توحي بأن حادثة حرق الكساسبة أفادت هذا النظام، بل وعززت موقفه في إطار التحالف الإقليمي – الدولي المناوئ لتنظيم الدولة، بصورة جعلته من أبرز اللاعبين فيه، بعد أن كانت الأضواء عادةً ما تُسلط على القيادة الأمريكية لهذا التحالف. والأهم، أن الحادثة عكست الرأي العام الأردني، نسبياً، باتجاه تأييد المشاركة الأردنية في الحرب على “داعش”.

ورغم السعي لعدم الوقوع في فخ “نظريات المؤامرة”، إلا أنه، وقسراً، أعادت حادثة حرق الكساسبة إحياء عدد من النظريات المُغرقة في “المؤامرتية”، وعززت شرعية طرحها في هذه الأجواء. أولى تلك النظريات، تلك التي تتحدث عن اختراقات كبيرة في صفوف القيادات العليا لتنظيم الدولة، من جانب أجهزة مخابرات إقليمية ودولية، إذ أن قرار إحراق الكساسبة يتناقض مع مصلحة التنظيم من جوانب عديدة.

قبل حادثة الحرق، كاد التنظيم يسجل لنفسه نقاطا عديدة في مرمى خصومه الإقليميين، من قبيل، إجبار بلد عربي على إطلاق سراح “إرهابيين” مُدانيين، ودفع آخر إلى الانكفاء عن التحالف الدولي ضده (الإمارات)، ناهيك عن النقاط التي سجلها التنظيم أثناء التفاوض لإطلاق سراح الكساسبة على صعيد ترسيم علاقات ثقة له مع قيادات وأوساط عشائرية فاعلة، لها وزنها وامتدادها في بادية الشام والعراق، وصولاً إلى الأردن، دون أن ننسى أن معظم مناطق نفوذ التنظيم هي مناطق عشائرية، مما كان يمكن أن يُستخدم كوسيلة لخلق حاضنة شعبية تتقبله سلفاً في مناطق تتاخم مناطق نفوذه، إلى جانب تعزيز الحواضن القائمة له حالياً.

لكن مع حادثة الحرق تلك، خسر التنظيم كل ما سبق، والأخطر أنه خسر شريحة من السوريين والعراقيين، والعرب في الأردن، ودول الخليج أيضاً، كانت تنظر إليه بنفسٍ يتراوح بين التأييد الخافت، وبين الترقب لاتخاذ موقف نفسيّ حياله، بناء على أدائه. ناهيك عن الشريحة التي كانت تؤيده بالفعل، والتي تقلصت دون شك بعد حادثة الحرق تلك.

إحدى النظريات التي أعادت حادثة حرق الكساسبة إحيائها، تلك التي تتحدث عن مسعى أردني، هاشمي، للمّ شمل سنّة سوريا والعراق المشتتين تحت ظلال “داعش”، وفصائل وميليشيات أخرى. طموح قديم يعود للحياة من جديد، حسب منظّرين، بصورة هادئة غير معلنة.

لا يوجد أية مؤشرات تؤكد ما سبق، ولا معطيات تعزز القول به، لكن ردة فعل النظام الأردني السريعة، وتصريحات مسؤوليه التي تتحدث عن تصميم رسمي أردني على لعب دور ريادي في القضاء على “داعش”، يُوحي بشيء مما سبق.

قبل حادثة الحرق، ساهم أسر الكساسبة في تلمس السلطة في الأردن لرأي عام ممتعض حيال مشاركتها في الحرب ضد “مسلمين”، بغض النظر عن سلوكياتهم الأخلاقية. بعد حادثة الحرق، بات من الصعب على أحد أن يطلق تلك الدعوى مرة أخرى.

يتحدث خبراء عن تيار شيشاني وآخر عراقي في أوساط التنظيم، الأول دفع باتجاه حادثة حرق الكساسبة، فيما انضوى الآخر تحت توجيهات الأول على مضض، وهو ما يتناقض مع أبحاث سابقة كانت قد أوحت بأن القيادة في التنظيم عراقية العنصر والهوى، في الغالب.

أما كيف سقطت طائرة الكساسبة؟…فهذه قصة أخرى سرعان ما لُفلِفَت بعيد فيديو الأب، الذي هلل، لاحقاً، لسياسة الملك أمام الإعلام الرسمي، مطالباً بالثأر لولده، ودك صروح “داعش” بقسوة.

وترتفع الأصوات اليوم بضرورة التدخل البريّ السريع، فيما يتم إطلاق سراح المقدسي، صاحب اللسان السليط حيال “داعش”، والوزن المعنوي في أوساط “السلفية الجهادية”، لتتضافر الأجواء حيال ما يُعد، على ما يبدو، من جبهة الجنوب، بعد أن اقتربت “داعش” منها، لتطرق أبواب جبل العرب جنوب سوريا، وتتعدى على التراب السعودي منذ مدة.

نظريات كثيرة، لكن الاتهام بالوقوع في فخ “عقلية المؤامرة”، قد يشكل إرهاباً أمام من قد يعتزم معالجتها.

ورغم ذلك، نقول، لطالما تحدث الأردن، الرسمي، عن عدم رغبته في التورط في “المستنقع السوري”، حينما كان النظام السوري هو المستهدف، وذلك خشيةً على أمنه، وأمن أراضيه ومناطقه الشمالية، رغم أن النظام السوري فقدَ معظم نقاط التماس معه، ورغم أن صواريخ باتريوت والمنصات الأمريكية المنتشرة قرب الحدود السورية ستمنع أي تحرش صاروخي من الأسد به..في حين سارع الأردن، الرسمي، في حالة “داعش”، للمشاركة، ولم يخشَ من تبعات ذلك على أمنه الداخلي، رغم كثرة مناصري السلفية الجهادية في أوساطه الاجتماعية، الذين لا بد أنهم أضمروا الميل لداعش، قبل حادثة حرق الكساسبة.

تناقض غريب في تحركات الأردن، الرسمي، يتناغم مع تناقضات وغموض الأمريكي، الذي أبقى النيل من الأسد بدمشق، خطاً أحمر، بصورة غير معلنة، فيما سارع لتجنيد عشرات الدول، في حرب ضد تنظيم ببضع عشرات من الآلاف، بصورة تُوحي بأنه يخشى الفوضى “السُنية” غير المنضبطة وفق هواه، أكثر بمرات مما يخشى “حلف المقاومة والممانعة” المنتظم في استراتيجيات، ظاهرها مناوئ له، منذ عقود.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى