صفحات العالم

حروب التفتيت العربية/ سليمان تقي الدين

لا نفهم لماذا تندلع جولات العنف في طرابلس بين جبل محسن وباب التبانة، ولو كنا نعرف الأسباب السياسية للنزاع. هذا الاستنزاف للمدينة ولأهلها لم يغيّر ولن يغيّر في شيء من ميزان القوى العسكري ولن يؤثر في مسار الأزمة السورية. ومثل ذلك الجبهة الجديدة المفتوحة على الحدود الشرقية في الهرمل وبعلبك وعرسال ووادي خالد. كلها ملاحق تفصيلية لحرب المحاور الإقليمية والدولية.

في مراجعة سريعة لتاريخ العقود الثلاثة الماضية نجد كل مشاريع التغيير والتحرير انتهت إلى حروب أهلية من لبنان إلى العراق وسوريا وفلسطين. كان التغيير ضرورة، وكانت الثورات مشروعة، لكنها صارت ضحية لصراعات ومصالح خارجية كبرــــى، وصـــارت «الحركات الوطنـــــيـــة» أســـيرة التفــاعـــــلات الجيوسياسية والتحقت بها. أعيد تشكيل القوى السياسية «الوطنية» نفسها في دائرة الإدارة الخارجية ووقع الانفصال ووقعت القطيعة بينها وبين شعوبها وجمهورها، وحدث التحوّل الخطير في طبيعة هذه القوى ومسارها. الطوائف في لبنان بدّلت مواقعها، وفي العراق تظهّرت في شكل إثنيات، وفي سوريا ذات الجسم «الأكثري» الحاسم تكوّنت «طوائف سياسية» جديدة أشبه بالجاليات التابعة لمصادر التأثير الخارجي. وصار الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج مجموعة كتل سياسية متعددة المصالح والتوجهات.

بالفعل صرنا في المشرق العربي كله مجتمع «أقليات» بالمعنى الاجتماعي والسياسي. حتى الجماعة الكبرى التي سادت هويتها وثقافتها وشكّلت ركيزة الاستقطاب العربي والإسلامي والعروبي، أي جماعة السنة، صارت طوائف سياسية موزعة على مروحة من الحركات والأحزاب والعقائديات المستحدثة ومنخرطة في نزاعات جهوية ذات بُعد سلطوي واضح.

لا قضية فلسطين، ولا الشعب الفلسطيني كجسم سياسي، يشكّلان عنصر جذب عربياً واحداً. ولا تحديات الأمن الإقليمي العربي من إيران وتركيا وإثيوبيا وطبعاً في المقدمة إسرائيل، تشكّل أساساً للتعاون العربي ولا للتضامن بين الدول وفي إطار الشعوب. صارت الطوائف القديمة والمستحدثة تجتمع من حول ما تعتبره أمنها الخاص ووجودها الذاتي بمعزل عن شركائها. وها نحن نرسم خارطة نعترف فيها للسنة والشيعة والمسيحيين على تنوعهم ولسائر الطوائف الأخرى فضلاً عن الأقليات القومية بشرعية الخيارات والتحالفات وبالكيانات الذاتية. الحصيلة الإجمالية أننا غادرنا الموقع «القومي» وكذلك الموقع «الوطني» ودخلنا عصر الطوائف الذي طالما اعتبرناه المشروع الصهيوني التفكيكي، والغربي الاستلحاقي الممهّد لتجديد «الكولونيالية» المحدثة في زمن العولمة والإمبرياليات المتنافسة. حروبنا اليوم في أحياء بغداد ودمشق وبيروت، وبين مدن هذه البلدان وقراها، في الأنبار والرمادي والفلوجة ويبرود وحمص ودرعا وطرابلس وعرسال وصيدا والقائمة الطويلة لمعارك «التحرير» لأرض دول نفترض أنها كانت مستقلة ومحرّرة وحرّة. فمن ماذا نحرّر ونطهَّر وعلى مَن ننتصر، ومَن ينهزم في هذه الحروب، وماذا نقاوم من قوى السيطرة؟ أي تاريخ نصنع لشعوبنا، أي مستقبل ننتظر بعد أن خرج العراق كله من دائرة الفعل العربي، وسوريا التي تجوّفت مدنياً وإنسانياً وسياسياً وعسكرياً، ولبنان المنقسم على نفسه والمفرّط بإرثه المدني والديموقراطي والمقاوم، والمستهلك لكل عناصر قوته في نزاعات فئوية وطائفية.

هذا المشهد العربي لا يزال في الاتجاه الانحداري، بل في طريق الهدم العنيف لكل ما راكم من معطيات في مجالات التقدم والتطور والوحدة.

ما نراه الآن موازين قوى حربية (عسكرية) كلها بين المكوّنات العربية، وبين أطراف في الداخل والخارج أصيلة في انتمائها لهذه المنطقة ولهذه البيئة الإنسانية والثقافية. لكن الخارج الفعلي الغريب القريب والبعيد لم يعد طرفاً في هذه المواجهة، أو هو على الأقل ليس في جدول أعمالها اليومي.

لكننا لا نتصارع بين قوى تقدّم وقوى تأخّر، بين تقدمية ورجعية، بين استقلاليين وتبعيين، فقد اختلطت الصورة بين الملكيين والجمهوريين، وصارت حركات التغيير تموّل من الدول المحافظة، ويقاتل القوميون بجزء من فقراء الأمة القلقين على مصائرهم من مشروع يربط التغيير بإسلام سياسي تسلطي يحمل ثقافة الاستبداد نفسها ويبخّرها بالعقيدة الدينية. هكذا نحن الآن في زمن الفوضى الوجودية وفي خبط عشواء لن نخرج منها إلا بتجديد المشروع السياسي العربي انطلاقاً من حاجات العرب للدخول في معركة التقدم والحرية وأشكال الوحدة الممكنة طوعاً وديموقراطياً.

ولن يكون هذا إلا بإسقاط الماضي الفكري والسياسي والثقافي الفاشل من هذا المشروع وتأسيس الرؤية العربية خارج مسار الحروب الأهلية.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى