حقن دماء السوريين
ميشيل كيلو
كلما تحدث مواطن مع أنصار التدخل الخارجي، أجابوه: والمدنيون، من يحقن دماءهم ويحول دون موتهم اليومي بالعشرات، ودون الاعتداء على أطفالهم ونسائهم وشيوخهم، وإتلاف ممتلكاتهم وإحراق بيوتهم واعتقال وتعذيب بناتهم وأبنائهم حتى الموت في حالات كثيرة جدا؟
هذا السؤال المحق، يمليه على السوريين ما يمارسه النظام من بطش وقتل عبر ما يسمى الحل الأمني، الذي ليس حلا وليس أمنيا، وإنما صدر عن نظام يعتقد أنه شكل التنظيم الوحيد الممكن في سوريا والصالح لها، مع أنه دمرها، ولا هدف لقادته غير استعادة صورته الحالية بعد إخماد الحراك الشعبي والتمرد المجتمعي، الموجه ضده بالتحديد، ولا يجد ردا عليه غير استباحة حياة مواطنيه وقتلهم واعتقالهم بأرقام فلكية يصعب تصديقها، وانتهاج سياسة تقوم على أساس صار واضحا هو: تدمير حياتهم ومقومات وجودهم المادية كبيوتهم وأدوات ومحلات عملهم ووسائل نقلهم وأموالهم وممتلكاتهم وأراضيهم… إلخ. هذه السياسة، كان من الطبيعي أن تسبب آلاما مخيفة للشعب السوري، وأن يزج به في تناقضات داخلية تجعل من السهل على أي طرف تصفية من لا ينتمي إليه، مما وضع سوريا على حافة حرب أهلية بدأت تنزلق إليها أكثر فأكثر، وأخضعها لمعايير تفتقر افتقارا متعاظما إلى العقلانية والمقومات الوطنية، وشرع أبوابها على اتساعها أمام أي أجنبي يريد التدخل في شؤونها.
واليوم، وقد بلغ القتل المتبادل في مناطق مختلفة، وخاصة في محور حمص، ريف حماه، ريف إدلب، درجة تتخطى أي توقع أو تقدير وتشبه كثيرا ما نعرفه عن الاقتتال الأهلي الذي يسمونه الحرب الأهلية، دون أن يقوم أحد في المعارضة بالجهد المطلوب لوقفه، في ظل اندفاع السلطة المتعاظم نحو تسعير نيران الحرب الأهلية لاعتقادها أن هذا يحول دون التدخل الخارجي، يصير من غير المنطقي والمقبول إطلاقا أن يطرح أي شخص أو أي جهة السؤال حول حماية الشعب السوري بما هو مهمة يجب أن يتولاها أو ينفذها الخارج، وخاصة الأميركي والأوروبي والتركي منه، سواء من خلال مجلس الأمن أم من خارجه، ومن غير المقبول أيضا أن يتجاهل دور المعارضة عموما، و«المجلس الوطني» خصوصا في وقف هذا الجنوح المجنون نحو العنف والقتل على الهوية، الذي لا يتناقض مع أهداف الحراك الشعبي الأصلية: الحرية والمواطنة والدولة الديمقراطية، وحسب، وإنما يتجاهل دورها الأصلي بصدد منع القتل، الذي ربما كان بعضها يسكت عليه خوفا من تشويه صورة الثورة، كأن الجرائم الطائفية لا تشوهها، أو كأنها لا تجهز على الثورة، التي تضحي قطاعات واسعة من المجتمع بالغالي والرخيص في سبيل أهدافها النبيلة، أو كأن السلطة لم تخطط لها منذ بداية الحدث الشعبي السوري العظيم، لاعتقادها أنها ستقوض وحدة الشعب، وستضع في يدها وسيلة فاعلة تعينها على احتواء الثورة وإخمادها.
بدل إعطاء أولوية للعمل على وقف هذه الجرائم الطائفية المتبادلة، التي يعاني أهل حمص وحماه وإدلب من نتائجها الرهيبة، يركز بعض المعارضين أنظارهم على ما يسمونه «الحماية الدولية»، ويطالب بعضهم بتدخل «مجلس الأمن»، جهلا منهم بأصول السياسة عموما والدولية منها خصوصا، ولاعتقادهم أن رفع صوتهم بالمطالبة بتدخل دولي يمكن أن يعوض عن صمتهم الشائن على الاقتتال المتفاقم باطراد، الذي يمارسه في أحيان كثيرة أشخاص قريبون منهم أو تابعون لهم، وأن يظهرهم بمظهر المدافع عن حياة الشعب، ويعطيهم الفرصة للمزايدة على بقية معارضي سوريا ومواطنيها، ولإدانتهم باعتبارهم أشخاصا لا يكترثون لحياة مواطنيهم، ولا يريدون تدخل الهيئات الدولية لحمايتهم وحفظ حياتهم!
ليس القتل الأعمى الجوال والمتبادل في أكثر من مكان إلا نتيجة من نتائج الحل الأمني السلطوي، الذي ولد بضغوطه المتزايدة على الشعب الأعزل انزياحا جديا في طابع ومجريات الحراك الشعبي، جسده انفكاك التحالف بين المجتمعين الأهلي والمدني، الذي وجهت السلطة أنظارها نحوه منذ بداية الأحداث، عندما قامت بتسديد معظم ضرباتها إلى المجتمع المدني، قائد الحراك ومنظمه ومنتج قيمه وأهدافه، فاعتقلت وقتلت وطاردت عشرات آلاف الناشطين، بينما سعت إلى إجبار المجتمع الأهلي على حمل السلاح وتبني مواقف متطرفة، مذهبيا وطائفيا، لينحرف الحراك عن طابعه المدني/ الديمقراطي، وينقلب إلى اقتتال أهلي يشبه ما يجري منذ بعض الوقت في حمص وريف حماه وإدلب، مع ما وصل إليه من تصاعد مفزع بلغ اليوم (15/11/2011) حدا مرعبا عبر عن نفسه في عمليات خطف وقتل متبادل طالت حتى الساعة (الثانية عشرة ظهرا) قرابة مائتي مواطنة ومواطن!
إن وقف الجنوح نحو العنف يجب أن تكون له – من الآن فصاعدا – أولوية مطلقة في عمل تنظيمات المعارضة المختلفة، ما دام استمرار العنف سيقوض مطالب وعمل المجلس الوطني وغيره من أطراف المعارضة، وسيضع مصير سوريا في أيد لا يعرفها اليوم أحد، من شأن سيطرتها على الساحة قلب الأمور رأسا على عقب، وتغيير الواقع السياسي لغير صالح الشعب أو أي طرف من أطرافه أو مكون من مكوناته. هذه أولوية مطلقة يجب أن تنصب عليها جهود جميع السوريين الشرفاء إلى أي جهة انتموا، وإلا وجدنا أنفسنا بعد حين إما ألعوبة في يد الخارج، لا قيمة لها بذاتها، أو خارج حقل السياسة والشأن العام، وخارج أي فاعلية سياسية أو عملية، مع ما يعنيه ذلك في الحالتين من فشل للحراك الشعبي السلمي، الذي ندين له بكل شيء إيجابي وقع خلال الأشهر الثمانية الماضية، وترجع إليه أزمة النظام السياسية والعسكرية الحالية.
من غير المقبول والجائز استمرار تجاهل الواقع القائم باسم حماية دولية للمدنيين، الذين سيقتل الكثيرون منهم، إن استمرت وتيرة القتل المتصاعد الحالية، قبل اقتناع مجلس الأمن بالتدخل لحمايتهم، علما بأن المجلس ليس مؤسسة إنسانية أو جمعية خيرية، وبأن مصير المواطنين السوريين ليس أكبر همومه، كما قد يتوهم بعض سذج المعارضة ممن يتحدثون عن مجلس الأمن وكأنه أداة بيدهم يحركونها كيفما أرادوا، فهو لا ينتظر غير صدور أوامرهم إليه بالتدخل كي يتدخل للتو، مع أن حماية المدنيين لن تكون ممكنة فعليا، حتى في حال تدخل مجلس الأمن، إذا ما خرج الأمر من يد الجميع ودخلت سوريا في مرحلة القتل من أجل القتل: تحت إشراف النظام الحالي وبإدارته.
لا بد أن تتجه جهود السوريين نحو وقف العنف المجنون، طائفيا كان أم سياسيا، وإلا وجدنا أنفسنا بعد هنيهة أمام مدنيين يذبحون بعضهم بعضا، وسلطة تتحكم بقتالهم، وتسعد برؤيتهم وهم يقتلون بعضهم بعضا بصورة مجانية وعبثية، بينما نحن نكرر حديثا يصير فارغا أكثر فأكثر، عديم المعنى والجدوى، ومملا وسخيفا عن ضرورة حمايتهم.
الشرق الأوسط