حق تقرير المصير وازدواجية المعايير/ حسين العودات
أجرى سكان القرم استفتاءً قرروا فيه الانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا الاتحادية، وأيدت الحكومة الروسية بحماس كبير هذا الاستفتاء، منذ التفكير فيه وصولاً إلى إعلان نتائجه، وواجهت هذه الحكومة نقداً شديداً من دول أوروبا والولايات المتحدة، التي فرضت عليها بعض العقوبات الرمزية، كي لا تستمر في تحريضها لسكان القرم على السير إلى تحقيق الانفصال عن بلدهم الأم أوكرانيا، والانضمام إلى شركائهم في اللغة سكان الدولة الروسية.
وكانت الحجة الروسية المعلنة هي أنها تدعم حق تقرير المصير من جهة، وأن أكثرية سكان القرم يتكلمون اللغة الروسية من جهة أخرى.
وعبرت حكومة الرئيس بوتين عن استعدادها لمواجهة الرفض الغربي والعقوبات الاقتصادية وغير الاقتصادية، مقابل استمرارها في تبني انفصال القرم وانضمامه إلى روسيا الاتحادية. لكن هذه الأسباب المعلنة لا تعبر في الواقع عن الأسباب الحقيقية للموقف الروسي المتصلب، الذي لا يبتعد كثيراً عن المغامرة.
ومن هذه الأسباب أن شبه جزيرة القرم هي القاعدة الرئيسية للأسطول الروسي في البحر الأسود، الذي يلعب دوراً استثنائياً في القوة العسكرية الروسية، فضلاً عن أن أوكرانيا هي الطريق الحتمي لمرور الغاز الروسي لبلدان أوروبا، وهو ذو أهمية اقتصادية واستراتيجية كبرى لروسيا. كما أن دعم روسيا لسكان القرم (الروس خاصة)، هو رسالة واضحة لجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وجميعها تسكنها جاليات روسية تتراوح نسبتها بين 5 و25% من السكان.
وتحمل هذه الرسالة تحذيراً واضحاً، يقول إن أي دولة منها “تلعب” مع روسيا ستواجه بالمطالبة بحق تقرير المصير أو بالحكم الذاتي للجالية الروسية فيها. وأخيراً، ربما أراد الرئيس بوتين بموقفه المتصلب من قضية القرم، أن يقول للعالم إن روسيا بدأت إعادة بناء إمبراطوريتها، وسوف تستعيد أمجاد الاتحاد السوفييتي السابق. ولكن يبدو أن الحكومة الروسية اهتمت بالنتائج الإيجابية فقط، وتجاهلت النتائج السلبية المحتملة لانفصال شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا.
إن حق تقرير المصير لجميع الشعوب، هو أمر من بديهيات عالمنا، بعد الحروب العديدة التي خاضتها الشعوب، سواء حروب القرن التاسع عشر في أوروبا أم الحربان العالميتان في القرن العشرين. وقد توصلت البشرية بعد هذه الحروب، إلى الإقرار بحق تقرير المصير، واحترام حق كل شعب في أن يختار نظامه السياسي وأسلوب عيشه وكل ما يتعلق بشؤون حياته. وبغض النظر عن مدى تطبيق هذا الحق، إلا أنه كان ولا يزال قيمة دولية وقانوناً وعرفاً غير قابل للتصرف.
ولكن هذا الحق يرتبط، في الواقع، بشروط وظروف عدة ينبغي أن تتحقق قبل تطبيقه، لأنه ليس حقاً مطلقاً قابلاً للتطبيق في مختلف الظروف والأحوال ودون أخذها في الاعتبار، ولذلك قد يتحول إلى حق نسبي يرتبط بالزمان والمكان والظروف، ويتعذر اعتباره بديهية مسلماً بها دائماً.
في ضوء ذلك نتساءل: إذا كانت الحكومة الروسية صادقة في دعمها لحق تقرير المصير لشعب القرم، فما رأيها في مطالب شعوب القوقاز (الشركس، الداغستان، الشيشان)، التي تطالب بهذا الحق وقد حمل بعضها السلاح ضد السلطة الروسية لتحقيقه؟! وما رأي الحكومة الروسية أيضاً إذا طالب أتراك بلغاريا، وألمان تشيكيا وبولونيا، ومقدون اليونان، وباسك إسبانيا، وشعوب المملكة البريطانية المتحدة، بحق تقرير المصير؟ بل ما رأيها لو طالب صينيو ماليزيا، وبلوش أفغانستان وإيران، وأذريو إيران وعربها، وإيغور الصين، وتركستان الشرقية، والأكراد في العراق وإيران وتركيا وروسيا نفسها، بمثل هذا الحق؟
ثم ما رأيها أخيراً لو أرادت شعوب إفريقيا أن تطبق حق تقرير المصير، حيث لن تبقى دولة إفريقية واحدة (جنوب الصحراء) على حالها؟! إن حق تقرير المصير الذي ينادي به الروس، يريدونه للقرم فقط، ويرفضونه لشعوب روسيا أو شعوب العالم الأخرى، لأنه في الواقع عندهم سبب تبريري لا مبدئي. وإذا طبق فستتراكم السلبيات على روسيا والعالم، ولن تستطيع السياسة الروسية عندها أن ترد على مطالب سكان القوقاز وغيرهم، وستضطر لاتباع الازدواجية في موقفها من القضايا المتعلقة بمطالب الشعوب المظلومة، والكيل بمكيالين.
أشير بهذه المناسبة إلى أن الدول الكبرى استمرأت، كما يبدو، سياسة الكيل بمكيالين، فقد سمعنا وزير الخارجية الأميركي جون كيري ينتقد الموقف الروسي، ويؤكد على ضرورة احترام القانون الدولي، ونحن نعرف أن بلاده لم تحترم القانون الدولي تجاه القضية الفلسطينية، ولم تطبقه أو تقبله طوال ستين عاماً.
ويؤكد هذا ازدواجية سياسات الدول الكبرى وخداعها ولهاثها وراء مصالحها، ورفضها ما توصلت إليه البشرية من قوانين وقيم، وتجاهلها خاصة للقانون الدولي الذي شاركت هي نفسها في إقراره.
ويمكن أن نستنتج من مواقف روسيا وأميركا، أن سياسات الدول الكبرى فقدت الحياء، وتحاول تطويع القانون الدولي والقيم الإنسانية لخدمة مصالحها مهما كانت النتائج، حتى أصبحت الازدواجية هي الثابت الوحيد في سياساتها.
البيان