حكاية (أبو حاتم): أشياء عن الكرامة والحب – روزا ياسين حسن
روزا ياسين حسن
لم يبدُ لي مظهر (أبو حاتم) مختلفاً كثيراً عن بقية الرجال الذين يحيطون به حينما رأيته للمرة الأولى. رجل أربعيني أسمر ممتلئ. حتى صمته لم يكن ينبئ بأن وراءه سراً ما. مرّ زمن قبل أن أكتشفه على حقيقته. وعرفته أكثر حينما سقط هناك في “دير بعلبة”. أشعر اليوم بأن ثمة الكثيرين من الشهداء الذين عرفتهم وواجبي أن أكتب عنهم، لكني اليوم أذكر (أبو حاتم) بقوة، وللأسف فأنا عاجزة عن ذكر اسمه، فأهله مازالوا هناك تحت مرمى الطغاة.
(أبو حاتم) كان رجلاً من “دير بعلبة”، إحدى الحارات الحمصية الثائرة. يمتلك فرناً للمعجنات هناك. وفي الوقت الذي كانت “بابا عمرو” محاصرة، في الشهر الخامس والسادس 2011، كان فرنه يخترق حصارها بالخبز والكعك والحب. يملأ صندوق سيارته السكودا ويذهب. لم يكن يهتمّ بعواصف الرصاص التي ثقّبت جسد السيارة وجعلتها مثيرة للضحك والرعب، ولا بالخدوش التي امتلأ جسده بها. فقد كان مقتنعاً بأن العناية الإلهية تحميه. كان يشمّر عن خدوش الرصاص المارق على جسده ويريني إياها. ويقول متفاخراً: “انظري سيدتي، لولا أن الله معنا لكان ثقّب الرصاص جسمي منذ وقت طويل!!”.
مع الزمن وراحت الثورة تتخذ مسارات أخرى: عدد المنشقين يزداد، عدد الثوار المسلحين يزداد، والموت يقترب رويداً رويداً. لكن (أبو حاتم) بقي مصراً حتى وقت طويل ألا يحمل السلاح، مع ذلك لم يعدم وسيلة لمساعدة الثورة بكل ما يملك. فرّغ إحدى البنايات التي يملكها وجعلها مأوى للثوار. أما المنشقون فيلجؤون إليها ريثما يقررون ما سيفعلونه، يبقون للقتال في حمص أم يرحلون إلى مناطقهم. وعلى (أبو حاتم) مسؤولية إطعامهم وتطبيبهم. ومع مرور الوقت راح يبيع معظم ممتلكاته ويصرفها على المحتاج منهم. ويستخدم كل معارفه الطيبة مع كافة مناطق حمص لفكّ المختطفين من كل الأطياف. قال لي ذات مرة أتى فيها إلى دمشق لينقل جريحاً في وضع خطر: “قبل الثورة كان العلويون أصدقائي أكثر من أهل بلدي. نشرب سوية ونسكر ونضحك.. جزء كبير منهم عاداني، ولكن هناك جزء مازال من أعز ّأصدقائي.. على فكرة سيدتي ليس كل ما يقال صحيحاً! ثمة الكثير من علوية حمص ساعدونا، وهم يدعموننا حتى اليوم.. لكنهم خائفين أكثر منا، ومحاصرين أكثر منا بكثير.. مشكلتنا ليست معهم، مشكلتنا مع الشبيحة فقط”.
سألته عما سيحصل بعد كل هذا. سكت قليلاً ثم قال: “ينبغي أن تعود سوريا كما كانت لكن بدون حكم القتلة وأعوانهم.. سيعود الشعب ليداوي جراحه بنفسه، ويعيش من جديد مع بعضه”. سكت قليلاً وكأنه يفكر ثم همس: “حتى لو طالت الآلام..”.
ثم اشتد الوضع أكثر. صار الأصدقاء والأقارب يسقطون يوماً بعد يوم، واقترب الموت واقترب. فقرر (أبو حاتم) حمل السلاح. وقاد كتيبة من المدنيين في منطقته. لكن لم يقيض له حمله أكثر من شهر، فقد بدأ القصف الشديد على “دير بعلبة” إثر الاشتباكات العاتية هناك، ولم يكن أمام (أبو حاتم) وأخوته وأقربائه إلا النزوح في أوائل نيسان 2012.
في دمشق رأيته من جديد إثر النزوح. حدثني حزيناً عن عجوله التي اضطر إلى إطلاقها قبل هربه. مئات العجول هشلت في البراري. حين سألته لماذا؟، قال لي إنه لا يضمن ألا يقصف النظام أي شيء حتى حظائر البقر.. أطلقها كي لا يكون إثمها في رقبته.
إثر صدور بيان الداخلية 18 نيسان 2012 تدعو فيه المواطنين للعودة إلى حاراتهم وبيوتهم في حمص بعد (استتباب الأمن) هناك، عاد الكثير من رجال “دير بعلبة“ إليها. مئة رجل عادوا ومنهم (أبو حاتم) وأخوته الذين كانوا يحلمون بيوم العودة. قال لي حين ودعته للمرة الأخيرة ورجوته ألا يعود: “أحلم بحجارة “دير بعلبة“ تناديني.. ما كان يجب ان أغادرها..”.
في مقتبل الحي كانت دوريات الجيش بانتظارهم، أو بدوا كذلك لأنهم يرتدون لباس الجيش. قالوا لهم: “أنتم في حمايتنا هنا.. ولن يؤذيكم أحد”، ورحّبوا بهم في بيوتهم (الآمنة). في تلك الليلة نام شباب „دير بعلبة“ آمنين لأول مرة بعد شهور. في اليوم التالي وعند العصر قدم رجلان إلى الحي، وندها على شباب الحي ليسألوهم أمراً ما. لبى النداء خمسة منهم، وهناك كان ثمة سيارة/ كمين متوارية بالقرب من المكان. تم تسليم الشباب إلى مجموعة من الشبيحة تنتظر الفريسة في السيارة على أحرّ من الجمر. سطحوهم على الأرض، وراحوا يدعسون عليهم. لم يستطع (أبو حاتم) احتمال المنظر أمامه. أفلت من يدي أخوته، وذهب إلى الشبيحة أعزلاً محاولاً أن ينقذ الشباب بالحوار مع معتقِليهم. لكن الشبيحة ألقوا القبض عليه، وأخذوه إلى المجهول. واحد من الشباب المخطوفين هرب، فأطلقوا النار عليه وأصيب في يده وكتفه، ولكن قيّض له أن يصل إلى حاجز الجيش. صاح بأن شبيحة حارة “العباسية” خطفوا الشباب ويريدون قتلهم، فأسعفه عناصر الجيش إلى مستشفى الأهلي في الزهرة، ولم يعرف عنه أي شيء إلى الآن. لكنهم لم يقوموا بأي فعل لإنقاذ الشباب المخطوفين.
اختفى (أبو حاتم). راح أخوته يبحثون عنه. لم يجد أخوه الأصغر، بعد أن سمع الكثير من الأقاويل، وسيلة إلا أن يذهب إلى حاجز الجيش ليساعدوه في إطلاق المخطوفين من قبل الشبيحة. قالوا له: “لا نجرؤ على الذهاب ليلاً إلى هناك”. فانتظر حتى الصباح، ليذهب إليهم مجدداً. قال لهم إن هناك من أخبره بأن ثمة خمس جثث في بيت قريب، وينبغي أن يذهبوا معه إليهم. جاؤوا معه، وتعرف الأخ على (أبو حاتم) ملقى هناك مع بقية شباب دير بعلية. جثته محروقة كجثثهم. ساعته المعدنية التي يرتديها هي وحدها التي دلّت عليه. ساعته المعدنية نفسها التي كنت أراقبها وهو يحدثني ويحدثني بشغف.
(أبو حاتم) لم يكن مسلحاً حين استشهد. لم يكن يرغب أصلاً بحمل السلاح. كان رجلاً يحب السوريين، يحب الحرية، والأهم مصر على العيش بكرامة، هذا بالضبط ما جعله واحداً من شهداء الثورة السورية.
خاص – صفحات سورية –
اللوحة للفنان السوري بشار العيسى