صفحات مميزةعمر قدور

أن تحيا وتضحك وأنت في فم الذئب!

 

عمر قدور

لم يكن السوريون يعيشون في هناءة، وإلا لما انطلقت ثورتهم المستمرة منذ مارس/آذار 2011 حتى الآن. هذا لا يعني أنهم لم يكونوا يتدبرون أمورهم على نحو ما ضمن نظام فاسد يتسلط على ثرواتهم العامة، فيقتطع يومياً من حصة كلّ واحد منهم. لا معنى هنا للقول إن السوري يحب الحياة، فمن المرجّح أن الناس جميعاً يتمتعون بالرغبة ذاتها، وربما يختلفون فقط في طريقة تعاملهم مع المعوقات التي تعترض دأبهم على العيش. مع ذلك بوسعنا القول إن مواجهة السوريين للموت، بشكل يومي ووحشي من قبل السلطة التي تسعى إلى قمع ثورتهم، وضعتهم في لحظة الاستثناء التاريخي التي تختبر في كل لحظة قدرتهم على انتزاع الحياة.

للتذكير واجه السوريون قمعاً وتنكيلاً استثنائيين منذ الأيام الأولى لثورتهم، ومع الوقت أمعن النظام في استهداف سبل الحياة العامة، فلم يعد أحد بمنجى من الخطر بالمعنى المباشر للكلمة. هكذا لم يعد الغد مضموناً، صارت الحياة هي الآن، وقد تكون الآن وحسب قبل أن تتسرب من الأصابع والأعين، قبل أن يقتنصها الرصاص في غفلة، وأحياناً قبل أن يقتنصها حين يُواجَه بالصدر العاري وبالهتاف الأعزل. ربما لهذا السبب يرقص المتظاهرون تحت زخات الرصاص، ينتشي كل منهم بلحظة قد تكون الأخيرة؛ قد لا يكون ذلك مفهوماً لمن لم يجرّب شعور الانعتاق في تلك اللحظة، حيث يغدو الجسد خفيفاً كما لم يكن من قبل، خفيفاً إلى حد أن يتلاشى في كتلة الأجساد الراقصة؛ الأجساد التي تُعرّف الحياة وتختبر مداها الأقصى.

بدأ الأمر من رقصة تدعى باللهجة المحلية رقصة البقجة “الصرّة”، حيث كان العريس الشاب وأهله يذهبون قديماً بهداياهم الملفوفة بصرّة إلى بيت العروس، ثم يرقصون بالصرّة في حركة جماعية دائرية قبل تقديمها إلى العروس. هذه الرقصة أصبحت طقساً يُشيّع من خلاله الشهداء، إذ يُحمل الشهيد على الأكف في الرقصة الدائرية ذاتها، يُحمل الشهيد بدلاً من الصرّة كناية عن أنه هو الهدية التي تُقدّم في الزفاف، أما المحبوبة فهي الأرض التي يُزفّ إليها. من تشييع شهدائهم بدأ السوريون الرقص في المظاهرات، لم يقل أحد منهم إنه يرقص نكاية بالموت، لكن شيوع الرقص مع ازدياد تعرضهم للقتل يجسّد الفن النبيل للحياة، ذلك الفن البدائي الغريزي كما هي الحياة في كل مرة: بدائية وغريزية وقابلة للاكتشاف للمرة الأولى.

ليست المرة الأولى التي يختبر فيها السوريون ظروفاً قاسية في ظل النظام نفسه، لكن الظروف الحالية مختلفة عما سبق، فمناهضة النظام الآن تتم بعقل وثقافة مختلفين، ورغم الكلفة الباهظة من الأرواح التي يحملها كل يوم جديد من عمر النظام إلا أن ضرورات العيش تفرض ذاتها، وتفرض التأقلم معها. بعد انقضاء أكثر من سنة من عمر الثورة بات التعايش مع مقتضياتها شأناً لا مفرّ منه، لم تعد التفاصيل معلّقة بانتظار الفرج القريب، ومن نأى بنفسه عنها لم يعد بوسعه تجنبها الآن. كأن السوري يعيش على مفترق حياتين؛ الحياة الموعودة التي لا زالت تلوّح له من بعيد، والحياة التي يعيشها يومياً، والتي جزء منها ترقب وانتظار، وربما لا يقين. حياة قلقة، من دون أن ينتقص التوتر منها، بل على العكس قد يشدّ مفاصلها المسترخية ويدفع بعجلتها قدماً.

يتدبر السوريون شؤون معيشتهم بصعوبة، لكنهم يكابرون ولا يدعون الصعوبات الاقتصادية خاصة تنال منهم، فمن المعلوم أن البلاد تتعرض لعقوبات اقتصادية زادتها صعوبة آثار الفساد المديد والعقوبات الخفية أو المعلنة التي يفرضها النظام على المجتمع في عيشه وتنقلاته ومصادر الطاقة. ومع أن السوريين لم يُشتهروا كثيراً كأصحاب نكتة إلا أنهم تعاطوا مع صعوبات العيش بمنطق التندر والسخرية، ولا نعدم وجود بعض المتحمسين لنذر الانهيار الاقتصادي، والذين يأملون بانهيار أكبر عسى أن يعجّل ذلك بسقوط النظام!. من جانبه يدعي النظام أن الحياة طبيعية جداً، مركزاً على النشاط والحيوية في بعض المدن الكبرى في دلالة على أن الوضع السياسي مستقر، إلا أن الدلالة المعاكسة هي إصرار الناس على ممارسة حياتهم الطبيعية رغماً عن وجود عناصر الجيش والأمن المدججين بالأسلحة في الشوارع وعلى مداخل الأحياء والمناطق، حيث يشكل وجودهم استفزازاً وإرهاباً يوميين.

ثمة معركة لا تُخاض بالأسلحة، هي أشبه بعض الأصابع بين المجتمع والنظام، فالأخير يحاول بكل السبل التضييق على الناس وسدّ سبل الحياة أمامهم. في المقابل يدرك الناس محاولات النظام فيزداد إصرارهم على مقاومته، إن عدد القتلى والمعتقلين والمهجَّرين حتى لحظة كتابة هذه الأسطر وحده كفيل بأن يوقع اليأس في قلوب الملايين، لكن هذه الملايين خرجت عن المألوف وأسفرت عن طاقة عظيمة من التكافل الإنساني والتواطؤ الضمني على تصعيد حدّة الحياة، وفيما عدا أمور العيش المعهودة يجوز القول إن المجال العاطفي لدى السوريين شهد تصعيداً كبيراً، فظهرت تلك الطاقة الوجدانية التي تكون عادة مكبوتة في المجتمعات المحافظة. لقد أباحت ضرورات اليوم العديد من محظورات الأمس بعد أن تغلّب الهم السياسي والوطني العام على دوافع الكبت والعادات الموروثة، وبات الكثير من السوريين أكثر جرأة في التعبير عن مشاعره، وأكثر جرأة في التعبير عن آرائه وميوله، بل بات يعتبر ذلك جزءاً أساسياً من حقه في الحياة. لذا قد لا يكون مستغرباً أن نشهد جرأة في البوح على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، فالشباب السوري من الجنسين امتلك للمرة الأولى هذه الطلاقة في المشاعر، وراح يتغنى بالحب في زمن الثورة معتبراً أن الحب ثورة أخرى على الذات البليدة والعيش المترهل. ولا يخفى أن نسبة لا بأس بها من حالات التقارب العاطفي باتت تتم على أساس التقارب السياسي، مع عدم إهمال حالات الهجر للأسباب ذاتها، ويبقى الأهم ذلك المجال الحسي المتولد عن طاقة شعورية استثنائية.

الشاب الذي خرج تواً من المعتقل، ولاقى أقسى أنواع التعذيب هناك، قد يكون هو نفسه الشاب الذي يتقن برمجة الكومبيوتر، وينتمي إلى مجموعة موسيقية صغيرة تنظم سهرة أسبوعية في أحد مطاعم دمشق، وهو أيضاً الذي يتجاوز الحواجز الخطرة والطرقات الجانبية لإيصال المساعدات الطبية والغذائية لأهالي المناطق المنكوبة وفي هذه الأثناء يسطر خاطرة عشق لحبيبته، فضلاً عن مشاركته الدائمة في المظاهرات. هذا الشاب ليس استثناء، على الأقل هو لا يرى في نفسه ذلك، ويعرف أنه يعيش نمط الحياة الذي يعيشه الآلاف من أمثاله. إن واحداً من إنجازات الثورة يتجلى قبل انتصارها النهائي في الغنى والتعدد، وعلى الضد من ثقافة الرأي الواحد أتاحت الثورة لأبنائها استكشاف سبل متنوعة والتجريب فيها دون خوف أو حرج.

ما سبق لا يلغي حقيقة أن القنّاص لا يزال متمترساً في مخبئه، ومستعداً لإطلاق الرصاص على أي مظهر من مظاهر الحياة. في الواقع ثمة سباق محموم بين طلقة القناص والرغبة العارمة في اقتناص الحياة لدى الضحية المحتملة؛ بالغناء بالرقص بالعشق وبالنكتة يهزأ السوريون من الموت؛ هذا الواقع بعيد بالتأكيد عن البحث عن السعادة المديدة، لكنه يحتمل لحظات كثيفة وربما قاسية من الفرح. في زمن الثورة حتى التفاصيل البسيطة للعيش تكتسب قيمة أعلى، لا لأن بعضها يصبح عزيز المنال وحسب بل لأن الثورة بحدّ ذاتها هي فعل جوهري من أفعال الحياة؛ يدرك السويون هذا ويعبّرون عنه جيداً، فهم أصلاً لم يقوموا بثورتهم إلا عندما لم يعودوا يطيقون حياتهم السابقة التي كانت تحمل القليل من الحياة.

مجلة الدوحة – عدد حزيران/يونيو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى