حلب الصورة المكسورة/ سعاد قطناني
تعبت من اللهاث وراء العاجل وهو ليس سوى خبر عن موتنا الجماعي، صور الكارثة تكاد تفقأ عينيّ بحثاً عن جواب لما يحدث، أشحت بوجهي، تدثرت بالكلمات ورتقت الجرح باللغة، فضمة تلم الوجع، وكسرة تعيد ما انفتح..
حين طويت وجعاً في القلب وفتحت جرحاً في الورق كان الجرح اسمه حلب
لم يسقط في حلب طفل واحد ولا امرأة واحدة.. ولم تختلط بالركام أشلاء من كانت طفلة أو آخر أنفاس شاب أو ثوب امرأة .. لم يكونوا واحدا أو مئة أو حتى ألف أو مئة ألف أو أكثر، كانوا شعبا معفرا بالتراب والموت والخيبة والمجزرة. وأنا التي هزمتني خيباتي ولا أنكر، وبت أكثر من محبطة، صار الضمير عبئا على قلبي حين انكسر ولم يستطع أن يمسح ذرة غبار واحدة عن وجه طفلة معفرة، ولكنه أيقظ الأسئلة. بعد مرور سنوات على الاحتجاجات التي بدأت سلمية في سوريا، وبعد ارتكاب كل الموبقات من النظام ضد شعبه، لماذا لم تتوقف المحطات الغربية أو وكالات الأنباء الغربية عن استضافة بشار الأسد على شاشاتها، بل على العكس أعطته منبرا ومساحة لتبرير كل جرائمه بغض النظر عن الأسئلة وتكويناتها وتذاكي الصحافي أو تذاكي الأسد، وكانت اللقاءات أشبه ببطاقة خضراء لاستمرار المقتلة السورية على مرأى من العالم بدعوى «محاربة الإرهاب».
في القضية السورية صار الإعلام بوقا لتكتل المصالح، وخادما ذليلا لاستراتيجيات السياسيين، مسوقاً الكذب كحقيقة والوهم واقعا، وبذلك فقد وظيفته وبنيته كإعلام يمد المتلقي بالحقيقة بموضوعية ونزاهة ليشكل بدلا عن ذلك مؤسسة سياسية موظفوها يجيدون استخدام القلم ويبرعون بالتلاعب بالحروف لصياغة صورة خادعة تجمَل وجه المجرم وتروج رؤيته بدعوى محاربة الإرهاب.
تعلمنا من أبجديات الإعلام عدم إعطاء القاتل منصة تجمله، أو تعطيه صوتاً وصورة تبيض صفحته، فالقاتل منصته الجريمة ورسالته الموت، ولا يمكن للقتل والجريمة أن تكون مسألة فيها نظر، قد يكون مُبرراً قبل خمس سنوات إجراء لقاء مع الأسد لسماع ما يمكن قوله من كلمات قد تحمل احتمال الندم أو التراجع، ولكن هذه اللقاءات مع استمراريتها باستمرار القتل أصبحت وكأنها استراتيجيات مدروسة يستخدمها الإعلام الغربي. فكلما ارتكب النظام السوري جريمة لا يمكن أن تقبل بها الإنسانية، وكلما أوغل في الدم السوري تجد من يذهب من الإعلام الغربي إلى سوريا ويتحمل عناء السفر ليسمع الهراء نفسه عن حرب النظام مع الإرهاب والإرهابيين وهو ما يجعله حليفا محتملاً مع مخاوف الغرب من «داعش» ويحجّم من أي خطوة يمكن اتخاذها ضد النظام السوري، ولأن القاتل يلبس الطقم وفي العنق يضع الربطة يمر الموت في أروقة العالم مرور الكرام، ولا عزاء للمظلومين والموتى. ولأن القاتل غسل يديه برغوة الكلام عن الإرهاب والإرهابيين لم يكن إرهابياً ولو اكتظت سجونه، أو قتل شعباً بأسره. القاتل النظيف الذي يرمي براميله المتفجرة بدون أن يتعفر بالموت ليس «إرهابياً»، حيث يتراكض الإعلام الغربي لإجراء لقاء «حصري» معه.
لم يعد مهما الهذر الذي ينطق به بشار الأسد، ولكن المهم هو الالتفات للقاءات بحد ذاتها قامت بها محطات ووكالات غربية عدة، وكان آخرها اللقاء الذي «انفردت» به اسوشيتد برس وأعطت القاتل منبراً لتبرير القتل والمجزرة.
ماذا كانت تتوقع الوكالة العالمية للأنباء أن تأخذ من بشار كتصريح حصري، هل كانت تريد أن تسمع تبريرا عن قصف المستشفيات وقوافل المساعدات أو المخابز
أو ربما كانت تريد الاستماع لتبرير عن استخدام البراميل المتفجرة، أو أن يعيد المراسل صياغة تعبير البراميل المتفجره ليخرجها عن إيقاعها الذي يزعج النظام السوري؟ هل أرادات أسوشيتد برس أن تُسمع العالم ما كان يقوله من إنه يحارب النصرة و»داعش» و»القاعدة»؟ ماذا يريد الإعلام الغربي أن يسمع من رئيس مفصول عن الواقع ويتخذ من الإنكار منهجاً؟ قد يكون هذا جزءاً من جواب لسؤال كيف وصلت سوريا إلى هذا الخراب وصارت حلب عنوان المجزرة.
أما في مجلس الأمن والأمم المتحدة فقد فقدت المؤسسات الدولية قدرتها على ردع القاتل، أو إيجاد حل لواحدة من أكبر المظالم الإنسانية على مدى أكثر من خمس سنوات، فيجتمع المجتمعون ويطير الكلام عن سوريا كالغبار ليتحول مجلس الأمن والأمم المتحدة عن وظيفتهما ويصبحا منبرا ووسيلة إعلامية عالمية إضافية تجري مؤتمرات صحافية من وقت لآخر يعلن فيها القاتل مبررات الجريمة.
يتراشق الجميع الاتهام والملام، وتقرر موسكو وواشنطن ألا تتفقا، فيما يدعو دي ميستورا مبعوث الأمم المتحدة وقف الغارات واستئناف هدنة لم تبدأ، وفي الأروقة الدولية يستمر الثغاء والرغاء الذي بدأ قبل أكثر من خمس سنوات ويخفت أو يعلو على وقع نار القصف ودوي الصواريخ مرة في حمص ومرة في دمشق وهذه المرة في حلب، حيث الناس هناك بعيدون عن هذا العجاج وهذه الزوبعة، التي تدور في فنجان الأمم المتحدة، وكل الجرائم لم تزحزح ممثل النظام السوري عن مكانه في الأمم المتحدة قيد أنملة وظل صوته يعلو ويعلو في الأورقة الدولية إلى درجة أنه عندما سُئل عن قصف نظامه للمستشفيات قهقهه وكأنه سمع نكتة سمجة.
الناس في حلب يموتون على الهواء مباشرة في حين يخرج المجتمعون في مجلس الامن محملين بمشاعر القلق بدون بيان إدانة يذر الرماد في العيون، ولم يبق للقلوب المعفرة بالموت والتراب إلا الدعاء.
في حلب، يسقط النظام السوري براميله المتفجرة ويجرب بوتين أسلحته الجديدة وقنابله التي صممت لاختراق»التحصينات العسكرية» فاخترقت أشلاء البيوت والسكان، وما هو محرم دوليا صار كلاما زائدا في اعتبارات العالم المنافق، وكل ذلك يحدث مترافقا مع صور «الإعلام الحربي» الذي يطبل للمعركة ويتجاهل كل الدمار والخراب مزيناً بمراسل بي بي سي عربي في صورة تذكارية تحمل الود والحبور مع أفراد من قوات النظام السوري على أبواب حلب المحاصرة.
الانفصال عن الواقع لم يعد ميزة يجب إثباتها على رأس النظام وأدواته الإعلامية التي تباكت وغصت بالمرثيات عن اللاجئين ومعاناتهم، لأن السبب وراءها «خارجون عن القانون»، وانغمست حتى الموت في تبرير الجريمة إلى درجة إنكار ما يجري في حلب ومحاولة الإيحاء بأن ما يجري تنطبق عليه مقولة «الدنيا ربيع والجو بديع»، حين نشرت وكالة الأنباء الرسمية للنظام السوري «سانا» فيديو لمراقص في حلب، ودأب النظام على نشر هذه الصور لتكريس صورة متناقضة سعى لحفرها منذ بدء الثورة، بين مناطق موالية تنعم بالرفاه، ومناطق معارضة تعيش الجحيم والدمار، ففي دمشق ذاتها التي ترزح مناطق عديدة منها للحصار والجوع والقصف تسمع من يتحدث عن «السيرانات» أو النزهات وتتردد كلمات مثل «ما في شي، ما أحلاها الشام»، وكأن الموت في دارايا في كوكب آخر، والقصف على كفر بطنا لا يعني دمشق، فصار بعض الناس صورة لنظامهم ولانفصاله عن الواقع، وحصل الشرخ النفسي والبشري بين ابناء المدينة ذاتها.
وهكذا سعى النظام وأدواته الإعلامية لتكريس هذه الصورة في حلب، كمدينة منقسمة على ذاتها، فكان أحد أطرافها يرقص على وقع الموت، والآخر يرزح تحت القصف والدمار، ففي أحياء حلب الشرقية تكون المعجزة بانتشال طفلة حية من تحت الركام وموت جميع أفراد أسرتها، أما الرقص على نغمات الموت في أحياء حلب الغربية فيكون هو المعجزة الأخرى..
كيف انقسم القلب هكذا، كيف تناغم إيقاع الرقص والأيدي اللاهية مع موت على بعد حي وشق ضمير، هل هو الخوف والتماهي مع القاتل أم هي الكراهية؟ بأي عين يرى من يرقص على مرمى حجر وبرميل وصاروخ هل يمكن أن نتخيل أن هناك من يرى من شباك بيته أو سطح منزله قنابل النابالم وهي تحرق المدينة العريقة على رؤوس أهلها ولا يحترق قلبه، هل هناك عين ترى وضمير يحيا؟ هل علم هؤلاء أن الكاميرات تصور فجورهم لتضفي أماناً ودعة مزعومَين على شاشات التلفزة، وهل علموا أن الأيام المقبلة ربما لن تشفع لهذا التماهي المريب ولا لهذا التواطؤ الذي أحال براميل الموت إلى صخب وموسيقى. وبين صورة الراقصين في حلب يتمايلون على تقاطع الضوء وضجيج الموسيقى، وصورة عجوز في حلب ينادي جسد ابنه حسام للقيام من كيس الموت الأسود، تطل ربطة العنق والبدلة النظيفة «في لقاء حصري» على وكالة عالمية لتفسر سريالية المشهد.
إعلامية فلسطينية
القدس العربي