حماة في مدرسة القصور
سمر يزبك
إزاحة الستار بطرف أصابعه لن تكلفه شيئاً، والساعة السادسة صباحاً، توقيت كامل للطمأنينة.
ألصق جبينه بالزجاج، وجال على الشارع بنظرة طويلة. ما يزال الوقت مناسباً لكتابة عدة صفحات هذا النهار، قبل أن يتوجه إلى عمله كأي موظف نشيط. كانت غرفته تطل على تقاطع يفصل المدينة عن مفارق عدة ضواحي. دقق في أكياس الرمل المصفوفة فوق بعضها على الجهة المقابلة من الرصيف، حيث نام على جانب هذه الأكياس جندي متعب الملامح، وإلى الجانب الاخر اصطفت عدة كراسي، تبدو من تحت الكرسي الثالث قدما جندي نائم. وراء الأكياس كان هناك جندي يقف باستقامة، يراقب الشارع ويتلفت من حوله، انتبه إلى شعور بالخفة كان يبدو على وجه الجندي، هل هو جندي أم رجل أمن؟ يتساءل، لم يعد يفرق بينهم! وهو يجول بعينيه، كان الجندي الأسمر يضع خوذة حديدة على رأسه، ويبرز أنفه المقوس، أطال النظر فيه ودقق، ليتأكد انه لن يشكل خطراً عليه، فعادت الطمأنينة ثانية إليه. نظر في الأفق، السماء كحلية فاتحة، لكن ثمة نجوم، هذا يريحه أيضاً! ارتخت أصابعه، وترك النافذة والشارع، وجلس على كرسيه وراء منضدة بلاستيكية ذات لون أزرق، هو الآن جاهز ليبدأ، لا مشكلة لديه، بعد ساعتين سيغلق باب غرفته، ثم يحيي صاحب البقالية المجاور لغرفته ويسأله عن آخر الأخبار، ويقول له كما يفعل كل صباح: لاحول ولا قوة إلا بالله، ثم يتجه إلى عمله، ويتظاهر بعدم متابعة الأخبار، وبين كل ساعة وأخرى، سيركض من غرفة الموظفين، وهو يتعرق، ثم يعود وقد انفرجت أساريره، وسيقول لزملائه: الإسهال اللعين! هو موظف محترم، لا يتدخل فيما لا يعنيه، يذهب كل يوم إلى وزارة الثقافة، قدم العديد من التقارير المرضية مؤخراً، وحصل على إجازات طويلة، والآن عليه أن ينتزع القصاصات التي تتكدس تحت فراشه الإسفنجي الذي يحتل نصف مساحة الغرفة.
انتزع القصاصة الصفراء التي دون عليها الحادثة التي سيضيفها إلى روايته. كان يدون أحداث الأيام الأخيرة من الفيس بوك، ومواقع الانترنت والتلفزيون، ومن لقاءاته بالناس والأصدقاء ومشاهداته في شوارع العاصمة التي كانت تتمتع بهدوء نسبي لا تحظى به المدن الأخرى. القصاصة صغيرة، كتبها بخط ناعم، ليبتلعها في حال حدثت صدفة، واقتحم رجال الأمن غرفته، هو متأكد أنهم لن يفعلوا، فهو يحمل قبعة الإخفاء اللازمة للتنكر، لكن للضرورة أحكام، يقول لنفسه، وهو يقترب بعينيه من القصاصة ويعيد قراءة الحادثة، يضعها جانباً، ويفتح الملف المخصص لكتابة نصه الأخير، سيكتب رواية واقعية هذه المرة، سيُكذّب نظرية الفن؛ الواقع أكثر خيالية وقسوة من المحتمل، بل أكثر وحشية من المتخيل! يضع قصاصة صغيرة جديدة، ويكتب عليها: تمزيق القصاصة بعد الإنتهاء من الحكاية. ينظر في شاشة الكمبيوتر، يضغط على أحد الملفات، يزم عينيه، ثم يفتحهما أمام بياض احتل الشاشة، كانت الصفحات فارغة، في وسط الصفحة البيضاء عنوان عريض: ‘كتاب الأمهات’، وتحته مباشرة عنوان أقل حجماً، ‘رواية’، ثم يبدأ الكتابة:
‘الأم التي راحت تركض في الشارع، كانت شفتاها ترتجفان، تتحركان وكأنها تحدث شخصاً ما، لكن صوتاً لا يخرج منهما، وهي تلوح بيدها لسيارة أجرة، ركبتاها انقصفتا، لم يعد يجدي بعد الآن الوقوف، ركضت في الشارع تصرخ، فاردة ذراعيها في الهواء: سيارة أجرة يا ناس.. سيارة أجرة يا هوووو..
ينظر الناس إليها بخوف وفضول. كانت تلهث، وأحاطوها بدائرة صغيرة، بالكاد نطقت بجملة: الأمن عند مدرسة الأولاد،.. الأمن اجو ياخدوهن.. سيارة يا ناس.. ابني بالمدرسة.
أوقف الرجال سيارة أجرة، ورمت نفسها بها، كان قلبها يدق بسرعة، في لحظة ما عاودتها تلك المشاعر، عندما كان يخرج من رحمها. لحظة خاطفة، وشعرت بثقل ضربة موجعة أسفل ظهرها. كانت تتنفس بصعوبة وترجو السائق الإسراع للوصول إلى المدرسة. توقف السير، ثم جاءت الضربة الثانية أسفل الظهر، فانتفضت الأم وتلمست أسفل بطنها، غريب أن تعود إلى تلك اللحظات، هل هي إشارة أن مكروها أصاب ابنها؟ رفعت يديها إلى السماء، وقالت: يا رب.. يا رب، عيونها محمرة وتغص ببكاء صامت. السائق ينظر في عيني المرأة ويحاول الإسراع. نزل من السيارة وصرخ بأعلى صوته، لكن أصوات زعيق خرجت من كل مكان في نفس اللحظة، عاد في ثوان.
ضربة أخرى، نعم إنها ضربة الموت، هكذا هي الولادة، في لحظة يتركز العالم كله أسفل الظهر، يتلاشى الجسد، يصبح مجرد مادة سابحة في العدم، ذرات الألم سابحة في التبدد، لا يمكن التفكير في تلك اللحظات بمعنى الألم، الألم لا معنى له في لحظات الولادة، مجرد مزحة سخيفة، يكون ثقل الكون مربوطاً بأسفل الظهر، حيث يجاهد كائن للاندفاع خارجاً، وحيث يمكن أن يتساوى الموت مع الحياة، لا فرق بينهما.
تنتفض المرأة. الألم يشتد، تجزع، فتفتح السيارة، وتركض في الشارع،. تركض بلا هداية، تركض وكأنها تستعد للطيران، كانت تمسك هاتفها المحمول في يدها، منذ قليل كان صوته يقول لها، أن تأتي إلى المدرسة لأن رجال الأمن اقتحموا المدرسة، وكانت غالبية الأمهات قد جعلن أولادهن يحملون أجهزة الهواتف النقالة للاطمئنان عليهم، فالجيش وأجهزة الأمن ينتشرون في المدينة، والطلاب تظاهروا ورفعوا شعارات: ‘لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس’، وأهالي المدينة يحملون أرواحهم ويمشون بها، والآن الأمن في المدارس لاعتقال الطلاب الذين شاركوا في التظاهرات.
ابنها في الرابعة عشرة من عمره، اتصل بها بعد ساعة من بدء الدوام المدرسي، وقال ما قاله، وأضاف: إن رجال الأمن لديهم قائمة بأسماء الطلاب المطلوبين.
ما تزال تركض، واختفت آلام أسفل الظهر، كانت تفكر فقط أن ترى باب المدرسة، لم تكن خائفة، تريد أن تمسك بجسد ابنها، وتلفه بجسدها وتركض به، لن تخاف من رجال الأمن، ستدخل إلى المدرسة مهما حدث. دخلت في شارع جانبي، وركضت بسرعة أكبر، كانت تلهث، وصارت عينا الولد تحتلان حجم الكون كله، عيناه الضاحكتان المشاغبتان بالحياة، تركض إليهما، تراهما، عيناها لم ترى الأشياء من حولها لولا الصراخ، انتبهت أن هناك الكثير من الأمهات والأهالي الذين يركضون بنفس الاتجاه، نساء يسرن نائمات في حلم، يهرولن، عيونهن مفتوحة على الفزع، بعض أغطية رؤوسهن على أكتافهن، شعورهن منكوشة ومتروكة بلا مبالاة، وكان الشارع يغص أكثر فأكثر بالناس. يرن جرس الهاتف، تنظر الرقم، هذا ابنها، ترتجف أصابعها، وتتيبس، لكنها تستطيع أن تقول: آلو. يأتي صوته من الجهة الأخرى في نفس اللحظة التي ولعت فيها أصوات إطلاق نار كثيف من داخل المدرسة، تركض وتصرخ: ‘آلو آلو آلو آلو…’ صراخ أمهات من حولها وبكاء، ورجال الأمن يقفون سداً أمام باب المدرسة، والأهالي يشكلون حاجزاً أمامها، يأتي صوته: ‘ماما لا تجي تركيني موت لوحدي ما بدي يصير لك شي’. يختفي الصوت، تخرُّ وتشهق، ثم تجر ركبتيها على الأرض وتمشي، أنهضها رجل، وأمسكت بيدها الثانية امرأة. نار خرجت من صدرها. نار دفعت بجسدها إلى الأمام، كانت تشق صفوف الناس، تنحني بين الأقدام، تنزلق بين الفراغات القليلة، ينظر من حولها إلى أم بدأت تزحف على ركبتيها متجاوزة البشر للوصول إلى باب المدرسة. كانت عيون الأمهات ممتلئة بالدمع، ووحدها هذه المدينة تعرف كيف تتحول العيون إلى لون أحمر وتنتفخ. وحدها المدينة التي عرفت البكاء والدم والصراخ منذ عشرات السنين، عندما تم قصفها وقتل أبنائها.
وقفت على رجليها وصارت وجهاً لوجه أمام الحاجز الأمني، كان رجال الأمن يطلبون من الأهالي التراجع، لكن أصوات الرصاص التي تخرج من بناء المدرسة تجعل الاهالي غير مكترثين بحياتهم، يخرج بعض الطلاب، وجوههم مدماة، فيهرع الأهالي إليهم. كان رجال الأمن يحملون الأسلحة ويوجهونها مباشرة إلى صدور الأمهات، ويطلبون عدم الاقتراب، لكن كل ذلك لم يمنع الأمهات من تجاوزهم ودخول المدرسة، استطعن دخول المدرسة، وكانت أصوات إطلاق النار ما تزال، وصياح وصراخ، قالت إحدى النساء: ‘الطلاب يهربون من المدرسة، والأمن يطلق النار عليهم.. إنهم يقتلونهم’. اشتعلت نار في صدرها، وجربت الاتصال بابنها، بحثت عنه داخل المدرسة، حالة من الفوضى والزحام، ورجال الأمن ينتشرون بين الصفوف الدراسية، وبعض الأهالي يحملون أطفالهم، ودماء تغطي وجوههم وثيابهم. لم تتلق جواباً من ابنها، اتجهت إلى صفه، كان فارغاً، لكن الباحة المدرسية تغص برجال الأمن، وبعض الأطفال المقيدين، وأطفال يحاولون تسلق سور المدرسة، والنار تٌطلق عليهم. نزلت الباحة، فجأة ظهر ابنها، كان الدم يغطيه من رأسه، ولكنه يقف أمامها، نظرت إليه، فتحت عينها على اتساعهما ولم تصرخ، كان ينظر إليها بغرابة، لمحت فراغاً في نظراته، وقبل أن يرتمي في حضنها، قال: ‘ماما لا تخافي هادا مو دمي’، صمت قليلاً ثم تابع: ‘هادا دم رفيقي قوصوه جنبي’.
سحبته من يده، وبصمت خرجت به وسط الجموع. لم تنظر خلفها، كانت النار تعلو وتعلو، ولم تستطع أن تشعر بالفرح، لرؤية ابنها حياً. أصوات التكبير ما تزال تُسمع، الآن انتبهت أن أصوات التكبير تترافق مع أصوات إطلاق النار، وكانت تحدق في ابنها الذي كان يلوح من بعيد لأصدقائه الذين اعتقلتهم أجهزة الأمن المدججة بالسلاح، كانوا 24 طالباً معتقلاً، وكان المكان يبدو مثل جبهة حرب، يخرج منها الأهالي مع أطفالهم الجرحى و ينتظرون خبراً عن اعتقالهم في السجن، قال لها: ‘ماما خفت يقوصوكي إنتي كمان’.
فردت بهدوء: ‘أمك شاطرة، أمك فوق راسك حبيبي’. ثم ربتت على رأسه، وضمته. شمت رائحة دماء طازجة، تفوح من خصلات شعره. نظرت بقوة في عينيه، فقال لها: ‘هادا دم رفيقي’.
توقف عن الكتابة، وتراجع إلى الوراء، انتهت حكاية اليوم. قال بصوت عال. نظر في الجملة الأخيرة، وكانت عيناه مغرورقتين بالدموع ثم مزق القصاصة، وحولها إلى نتف صغيرة، وألقاها بسلة مهملات تحت الطاولة، نظر في ساعته، كانت قبل السابعة، قرر أن الوقت مناسب ليخفي اثار ما كتبه. لمَّ القصاصات ثانية، وأعادها الى كيس بلاستيكي، وفتح غطاء الفراش، وحشرها بينه وبين الإسفنج، ثم أغلق السحاب ورمى اللحاف فوقها. كان يفكر أنهم لن يفتشوا في الأوراق وأن المداهمات الأمنية التي تقوم بها الأجهزة ورجال الشبيحة ستبحث في الكمبيوتر فقط، لذلك نقل الملف إلى ‘ يو إس بي’ وحذفه من سطح المكتب، ثم وضع الـ ( يو إس بي) نفسه، في شق مدور داخل الإسمنت ، يعلق فوقه صورة للرئيس. نظر إلى الصورة بعد أن تنفس بعمق: ‘الجن الأزرق لن يخمن ما تحت الصورة!’.
خرت ركبتاه، شعر بنعاس ثقيل، ثم تهاوى على الفراش الإسفنجي، سيغفو لدقائق عدة، فكر بعنوان الفصل التالي لكتابه، وتذكر آخر ما وثقه من حكايات الأمهات على القصاصات، وقرر أن العنوان الجديد سيكون: ‘حمص، زينب التي قتلت مرتين’
تكور حول نفسه حتى لامست ركبتاه صدره، وترك نفسه للنعاس.
القدس العربي