حملة الأسد والخيّال الديك!/ صبحي حديدي
ليس ضرورياً، البتة، أن يعلن بشار الأسد عزمه على الترشيح لـ”ولاية رئاسية” ثالثة، حتى تنطلق ـ على النحو الشعبوي المعتاد، حيث خطاب عبادة الفرد الأشدّ ابتذالاً هو السيّد ـ سلسلة حملات التأييد، وتظاهرات الاسترحام، ومسيرات الاستعطاف، التي تنظمها أجهزة السلطة على سبيل مناشدة “القائد”، بوصفه “الأمل” و”الراعي”، كي يقود!
وإذا كان “مطرب النظام”، علي الديك، هو السبّاق دائماً إلى ذُرى الميلودراما الرخيصة (كما في أغنيته الجديدة، التي تقول: “يا سوري من قلبك عيد… بدنا الأسد بالتحديد”!)؛ فإنّ فناناً هرماً، عريقاً ومخضرماً مثل رفيق السبيعي، “أبو صيّاح”، لا يغيب عن المعمعة، فيراه السوريون الآن وقد خلع “الشرول” الشعبي التاريخي، وارتدى الثياب العسكرية، وحنجرته تشقّ عنان السماء: “نحنا جنودك! نحنا رجالك! إنتا أملنا يا بشار!”. وبين الديك والسبيعي، لا يعدم المرء لافتة عملاقة، تغار منها أحطّ نماذج الدعاية الركيكة، تتقاسم مساحتها صورتا الأسد الأب والأسد الوريث، وكتابة تقول: “قلْ لهم يا بني أنا بشار، أنا ابن سوريا، أنا ابن الجبل، أنا ابن القرداحة، أنا ابن الأسد، وإن لم يسمعوا كلامك فذكّرهم بأنك ابن حافظ الأسد”!
ولقد مضى زمن شهد تفاؤل البعض، وبينهم عدد من “قادة” المعارضات السورية، الداخلية والخارجية، بأنّ توريث الأسد الابن قد اقترن بانحسار تقاليد الـ”هوبرة” الغوغائية التي اقترنت بعقود حكم أبيه الثلاثة؛ وذلك رغم أنّ نسبة التصويت على ترئيسه بلغت 92،79 %، ولم تخل سيرورة الاستفتاء، أواسط العام 2000، من مظاهر كثيرة تذكّر بالماضي: العملاقة في الساحات الرئيسية، التماثيل، الأغاني التمجيدية، الشعارات التأليهية، والمظاهرات “المليونية”… لكنّ تفاؤل المتفائلين رُدّ إلى نحورهم سريعاً، وعادت التقاليد إياها إلى احتلال الشارع، ولم تتبدّل سوى الأسماء في الهتافات الكلاسيكية.
خذوا النماذج التالية من الشعارات التي ارتفعت، ثمّ تكررت ورسخت واستقرّت: “الله! سورية! بشار وبسّ!»، و”يا بشار لا تهتم، عندك شعب بيشرب دمّ”، بالإضافة إلى الترنيمة الأزلية “بالروح! بالدمّ! نفديك يا بشار!”. أمّا الأكاذيب، الكلاسيكية بدورهت، التي يشيعها إعلام النظام حول الجهات المبادرة إلى تسيير المظاهرات، فهي التالية: فعاليات اجتماعية وثقافية واقتصادية خاصة، و… مؤسسات المجتمع المدني! وخذوا، ثالثاً ولكن ليس أخيراً، عيّنات من أبرز ممثّلي هذا “المجتمع المدني”: أشهر الأشبال، أنجال كبار أُسُود مافيات النهب، وتماسيح الفساد والتسلّط والتجارة القذرة!
الأسد نفسه كان، في غضون ذلك، يعيد إنتاج خطاب أبيه حول الديمقراطية، فيردّد أنها “واجب علينا تجاه الآخرين قبل أن تكون حقاً لنا”؛ أيّ أنّ ممارسة الديمقراطية ليست حقّ المواطن أوّلاً، بل هي التالية بعد واجبه تجاه “الآخرين”، الذين لا يمكن أن يكونوا سوى الدولة ذاتها. يؤدّي المواطن واجبه أوّلاً، وبعدها نبحث في حقوقه. هذا هو جوهر الحذلقة في التهرّب من المسألة الجوهرية التي تقول إنّ انفصال الحقوق عن الواجبات، أو تفصيل الحقوق على مقاس الواجبات في عبارة أخرى، هو المدخل الكلاسيكي الذي مكّن أنظمة القمع والاستبداد من تدجين المواطن، وتغييب حقوقه تحت مظلة واجبه تجاه “وطن” لم يعد سوى مزرعة القاهر وملعب السلطة.
كذلك ظلّ الأسد يمارس هوايته في التفلسف، هكذا مثلاً: “الفكر الديمقراطي هو الأساس والممارسات الديمقراطية هي البناء، الديمقراطيات الغربية على سبيل المثال هي محصلة تاريخ طويل نتج عنه عادات وتقاليد وصلت معها مجتمعاتهم إلى ثقافتها الراهنة، ولكي نطبق ما لديهم علينا أن نعيش تاريخهم وإسقاطاته الاجتماعية”. كأنّ ماضي سورية لم يشهد تجارب حقيقية في الديمقراطية النيابية، أو كأنّ أنظمة حزب البعث، ومنذ العام 1963 حين فُرضت الأحكام العرفية، لم تكن هي التي أجهزت على تلك التجارب، التي عرفها المجتمع السوري منذ عشرينيات القرن الماضي.
ولقد احتاجت سورية إلى بضع تظاهرات شعبية، عفوية وسلمية تماماً، تطالب بالحرّية والكرامة والعدل الاجتماعي ودولة القانون، لكي يكشّر النظام عن أنياب هي بين الأشدّ وحشية ودموية على امتداد التاريخ البشري؛ وتوجّب، استطراداً، ألا تكتفي حملات الأسد بتجنيد خيّالة من أمثال الديك والسبيعي، وتحتّم استدعاء ميليشيات النظام وأنصاره وشبيحته، ممّن يشربون الدمّ فعلاً، لا هتافاً فقط!