حنين شامي في عمّان/ رشا عمران
ما أن خرجت من قاعة الواصلين إلى مطار عمّان، وأصبحت في الخارج، تحت ضوء سماء عمّان، وفي مهب هوائها، حتى انهمرت دموعي، من دون أن أمتلك القدرة على إيقافها. منذ ست سنوات لم أدخل عمّان، جئت إليها آخر مرة في نهاية العام 2011، حين كان الجميع لا يزالون يعتبرون السوري كائنا بشريا عاديا، يدخل إلى أي دولةٍ يزورها بإذن دخول عادي، مثل كل أبناء هذا الكوكب البائس. كانت زيارة عمّان لي قبل 2011 رحلة دورية، أزورها باستمرار، ليس فقط بهدف الشعر، كما زيارتي اليوم، بل، أيضا، بقصد زيارة الأصدقاء الكثيرين فيها. المسافة برا بين دمشق وعمّان كانت قصيرة، يزيدها قِصرا الشوق لها، إذ طالما كنت أرى هذه المدينة جميلة، هادئة وراقية ونظيفة، وتتدرّج بين الليونة والشدة تقليدا لجغرافيتها. ولم أكن أحتاج إلى حجز فندق للإقامة فيها، حين كنت آتي إليها من الشوق، بيوت أصدقائي فيها كانت مفتوحة لي دائما، مثل قلوبهم الأنيسة البيضاء. لهذا ربما لم أستطع إيقاف دموعي، حين وصلت إلى عمّان، كان شوقي لها مخبأ في منطقة مخفية من وجداني، لم أكن أرغب في كشفها، مكابرة ومعاندة للحنين، غير أن هذا الخفاء فضحته رائحة الأرض المبللة!
حين وصلت إلى عمّان، كان مطر الخريف في بداياته، المطر الأول الخفيف، الذي يفصح عن رائحة جسد الأرض، تلك الرائحة التي تشبه رائحة أول المطر في دمشق! شيء ما في المنطقة المسماة بلاد الشام يختلف عن غيره، شيء نعرفه نحن “الشوام”، كما يسموننا في باقي بلاد العرب. هذه الرائحة أول المطر لم أشمّها في أي مكان آخر خارج هذه المنطقة. يقول لي أصدقائي “الشوام” هذا أيضا، ربما هي فكرة مجازية أو ذهنية، إذ حتى رائحة كهذه يشتغل العقل على تحليلها وإعادتها إلى أصلها في الذاكرة. قال لي سائق تاكسي في عمّان، وهو يقلني إلى بيت صديق في جبل اللوبيدة: “حين كنا صغارا، كنا ننتظر أول مطرة كي ننزل لنلعب في الشارع، كانت رائحة الأرض أول المطر تشدنا للنزول إلى الشارع”. الآن، أكمل: “كلما شممت هذه الرائحة أشعر بالحنين إلى تلك الأيام الجميلة”.
يا إلهي، إذاً لست أنا فقط، وليست فكرة رومانسية وشعرية، هي فكرة التعلق بهذه الرائحة، ثمّة رابط حقيقي بينها وبين سكان هذه المنطقة، رابط ممتد من الطفولة الأولى. هل لهذا بكيت أول وصولي إلى عمّان؟ وهل لهذا، طوال مدة وجودي فيها، كان قلبي يخفق كمن وقعت بالحب للتو؟ هل لأنني أطلقت ذاكرتي من سجنها الممتد منذ خمس سنوات ما أن وصلت إلى مكانٍ يشبه دمشق إلى حد كبير؟ هي ليست فقط الرائحة التي عبقت بأنفي وبذاكرتي، هناك اللكنة في الكلام أيضا، اللكنة التي أحبها، لكنة سهل حوران، الصافية منها، وتلك المختلطة باللكنة الفلسطينية والسورية، هنا أيضأ تحول الحس إلى فكرة ذهنية.
في درعا، الواقعة في سهل حوران الممتد من سورية إلى الأردن، ظهرت أول هتافات الحرية في سورية، تلك الهتافات التي غيرت وجه سورية إلى الأبد، وربما غيرت وجه المنطقة العربية كلها، الهتافات التي أول من دفع ثمنها من دمائهم هم أهل حوران، قبل أن يدفع السوريون جميعا ما عليهم من مستحقّ هتاف الحرية، وقبل أن تدفع سورية، الماضي والحاضر والمستقبل، ثمن هذا الهتاف، وقبل أن يجتمع العالم بأكمله لوأد الحلم بصرخة “سورية حرة”. دقائق قليلة من سماع تلك اللكنة كانت كافية لتشمت ذاكرتي بي ساخرة، لقد انتصرت عليّ أخيرا، ولم أعد أستطيع مقاومتها، أعترف: فاض الحنين بي وأنا في عمّان، المسافة إلى سورية قريبة جدا، أربع ساعات برّا وأكون في دمشق، كما لو أن لا شيء حدث، كما لو أنني، في واحدةٍ من زياراتي القديمة إلى عمّان. ليت ذاكرتي توقفت هنا فقط، ليتها لم تعد لي شريط سنوات ست من الدم والقتل والموت والتهجير والتنكيل، ليتها لم تكشف لي حنينا جارفا، أخفيه عن يومياتي كي أتمكن من العيش.
العربي الجديد