حوار محمد علي الأتاسي مع الأب باولو دايلو
قد يكون الراهب باولو دايلو واحدا من أكثر السوريين إنتمائا لوطن مشتهى إسمه سورية. فهذا الراهب من أصل إيطالي، إكتسب سوريته بالجهد والعرق والحب لهذ البلد والعمل الدؤوب لخدمته. ودير مارموسى الحبشي بالقرب من مدينة النبك، والذي أصبح محجا لكل زوار سورية في العقود الماضيه، هو خير دليل على الدور الذي لعبه هذا الراهب في ترميم هذا الدير المهجور العائد للقرن السادش الميلادي، وجعله ملتقا روحيا وثقافيا لكل أبناء سورية.
كان طبيعيا أن ينحاز الأب باولو إلى الثورة السورية وكان طبيعيا أن يرفع الصوت عليا وأن يمضي اسابيعه الأخيرة مع الثوار في مدينة القصير بالقرب من حمص ليحاول أن يصون العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين، وهذا بالضبط ما لم يغفره له النظام ولا المؤسسة الكنسية الرسمية، فسارعا إلى طرده مخافة أن تتفشى ظاهرة الأب باولو. لكنها مع ذلك ستتفشى وتعم، وسيعود الأب باولوإلى بلده سورية، أبا لكل السوريين.
محمد علي الأتاسي
س/ هل فاجأك عنف النظام في مواجهة الثورة السورية؟
صدقا لم يفاجئني هذا العنف. أتذكر أن السفير الفرنسي أتى لزيارتي في الشهر الأول من العام 2011 في بدايات الربيع العربي وسألني عن رأي في إمكانية وصول رياح التغيير إلى سورية، كان جوابي له: في حال حدوث شيء من هذا القبيل فإنه لن يكون لا قصير ولا سهل. وأتذكر أنني أعربت له عن مخاوفي من أن يسقط عشرات ألوف الضحايا وأن تتهدد وحدة البلد.
اليوم كلي رجاء أن يتوقف هذا العنف قريبا, فلقد دفعنا ثمنا باهظا وتقسيم البلد لا أحد يريده. لكن هذا الخطر قائم إذا استمر المجتمع الدولي في التنازل عن تحمل مسؤلياته. صحيح أن المجتمع السوري غني في التنوع وحسن الجوار والتعايش المشترك والاحترام المتبادل بين الناس, مع ذلك في حال دخل الناس في منطق الحرب الأهليه, فالكل يتطرف وسرعان ما يتجفف الوسط الثقافي و الروحي والأخلاقي والادبي الحامل للتنوع, وينسحب باتجاه الأطراف.
س/ في المقابل, هل فاجأتك ثورة الشعب السوري وإنضمامه إلى موجة التغيير التي اجتاحت العالم العربي؟
هناك عنصر وحيد فاجأني في كل الربيع العربي, ألا وهو الشباب. هؤلاء الشباب فاجأوني بنضجهم السياسي والإنساني وفي استعدادهم للتضحية بحياتهم في سبيل استردادهم لكرامتهم وحقوقهم وفي سبيل قيم الأخوة والمساواة التي يؤمنون بها. أنا في حياتي كلها لم أتعلم عن كرامة الإنسان, بمثل ما تعلمت من الشباب السوري في السنة الأخيرة.
عدا ذلك لم يفاجئني السوريون في تصميمهم على نيل حريتهم واصرارهم المقاومة, والسؤال هنا هل توقف السوريين فعلا عن المقاومة خلال عمر الاستبداد المديد! حتى بعد الضربه القاسمه التي تلاقاها المجتمع السوري بعد مجزرة حماه في العام 1982؟ لا لم تتوقف المقاومه وبقيت السجون ممتلئة بالاحرار والشرفاء, هذا ناهيك عن الاشكال المتعدده من المقاومة المدنيه بما فيها الكتابه والاستقلاليه ونظافة الكف والمحافظة على القيم داخل البيوت والحفاظ على الدين الخالي من الفساد في مواجهة نظام فقد كل مبررات وجوده الايديولوجيه الأخلاقية وأصبح عبارة عن هيكيليه من القمع واحتكار السلطة ونهب الاموال العامة.
س/ من أين يأتي هذا العنف وهذه الوحشية التي تنتهك كل الحرمات, بما فيها قتل الابرياء والتمثيل بجثث الأطفال وإغتصاب النساء؟ وما هي جذور هذا العنف الذي خلناه غريبا عن المجتمع السوري؟
جذور هذا العنف هي الديكتاتورية التي إمتدت لأكثر من أربعين عاما, ومنعت عنا تملك ثقافة حقوق الإنسان بمفهومها الحديث. صحيح أن أدياننا تمنعنا وتحمينا من إرتكاب مثل هكذا موبقات, لكن في أحيان كثيرة تصبح الأديان حجة لتأجيج الكراهية وتبرير العنف.
في هذا السياق, لا فرق بين البوسنة وبين الصومال أو راوندا أو السودان. عندما تدخل الناس في صراع متخيلة أنه صراع على الأرض والوجود, يصبح قتل النساء والأطفال هو بمثابة إستئصال الآخر من الأرض وإبعاده وطرده النهائي, أو بعباره أخرى إبادته جماعيا.
للآسف الشديد نحن اليوم في سورية في هذا الشيء, وللآسف الشديد لا أستغرب ذلك و للآسف الشديد كنت متوقعا له. وهذا ليس بشيء جديد في تاريخ البشرية, وعلينا جميعا أن نتبرأ بنعمة الله من هكذا أفعال تنبع من إنسانية قبيحة ومنحطه، هي أقرب إلى التوحش منها إلى الإنسانية. نحن تلقائيا لسنا بأفضل من الحيوانات, لكن المطلوب من الإنسان الجهد والجهاد حتى يرتفع ويترفع، وأولى الدرجات هي إحترام الجار وإحترام إنسانيته وأخذ القرار أن نعيش سويا وأن نخاف على بعض, لا أن نخاف من بعض. وهذا هو الجهد والجهاد الحقيقي, أما الغرائز والكراهية العمياء, فإنها لا تؤدي إلا إلى المجازر والقتل الجماعي.
س/ لكن هذه الغرائز وهذه الكراهية, هل يمكن لها أن تفسر كيف يمكن لهذا لقاتل أو شبيح أن ينظر في عيون ضحيته وأن يمسك بلحمها الطري بكلتا يديه قبل أن يهم بذبحها بحد السكين؟
ألم تنتبه كيف أنه عندما يريد إنسان أن يضرب إنسانا آخر, فإن أول ما يفعله هو أن يجرده من إنسانيته بإطلاق شتائم بحقه من مثل “يا حيوان” أو “يا كلب”. المفجع أن الكلاب عندما تتقاتل فيما بينها, فإنها لا تصل لدرجة الوحشية التي يمكن لإنسان أن يستخدمها ضد أخيه الإنسان، كون الكلاب تعي أنها من ذات الفصيلة، أما الإنسان فإنه يخرج اخيه الإنسان من فصيلة البشرية, ويجعل منه في مخيلته حيوانا أو حشرة, حتى يبرر لنفسه أن يدعسه أو يقتله أو يبيده!
من هنا فأنا لا أستطيع أن أتفاجئ بما يحدث الآن في سورية, ولكنني أتآسف وأحزن وأتألم. نعم لا أتفاجأ, لأنني رأيته قادما وحذرت وكتبت. وأنا اليوم كسوري من أصل إيطالي, أقول للسوريين أجمعين، موالين ومعارضين, لسنا بأحسن من الايطاليين أو الاسبانيين أو الألمان, كي لا نبيد بعضنا بعضا, ومن هنا أهمية أن نشتغل على أنفسنا وأن نسترد إنسانيتنا لتجنيب سورية ويلات الحرب الأهلية التي عاشتها الكثير من بلدان العالم.
س/ قد نكون كلنا في الهم شرق, لكن ألا تعتقد معي أننا لا نستطيع أن نضع النظام ومؤيديه وشبيحته في ذات المنزلة مع الثورة ومؤيديها؟ طبعا هذا لا يعني أن الثوار جميعهم ملائكه, لكن التفوق الأخلاقي هو بالتأكيد في صالحهم. ما رأيك؟
هذا السؤال مهم وأقرّ أن في كلامك الكثير من الصواب, لكن دعني أوضح بعض الامور. هذا النظام الاستبدادي عاش منذ البداية على الكذب وعاش على ممارسة كافة أنماط العنف والتعذيب والتشويه والكراهية وتجريد الناس من إنسانيتهم, كجزء لا يتجزأ من منظومة السلطة وممارساتها. ونتج عن هذا تكاذب جماعي وعبادة للفرد وتقديس لرموزالسلطة. من هنا أصبح الكذب والتكاذب جزء من الممارسات الشائعة والضرورية التي يتواطؤ عليها ويرتكبها الكثير من الناس العاديين ومن المؤيدين, بمن فيهم العديد من رجال الدين من كافة الطوائف. ونتج عن هذا ولادة إنسان مزدوج, يختلف بين الصورة التي يراها في مرآته دخل بيته و الصورة التي يمارسها بالخارج ويقدمها للآخرين.
في المقلب الآخر, مقلب الثورة، هناك أناس يريدون الشفافية والانعتاق من الكذب والعمل على إستعادة الحقوق المشروعة. أناس يكتشفون من جديد فرح التدين الذي تطابق فيه النظرية مع الشيء المعاش على أرض الواقع.
دعني أعطيك مثالا بسيطا يوضح ما أقوله. دخلت بيتا من بيوت الجيش الحر على خطوط الاشتباكات, وأثناء الزياره طلبت أن أذهب إلى المرحاض فوجدته غاية في النظافه على غير العادة مع المراحيض التي يستخدمها العسكر, فقلت لهم هذا المثال على بساطته هو مؤشر على التبدل الذي طرأ على هؤلاء الجنود المنشقين حتى أنهم أصبحوا في أبسط الامور يبحثون عن الشفافيه والنظافة. هذا ناهيك عن أن العلاقات كانت فيما بينهم علاقات أناس أحرار, لا بل أن ملامح المواطن الحر كانت واضحة في وجوههم ومحياهم. أنت أمام أناس أحرار, أنت أمام إنسان جديد تشعر بذلك من الوهلة الأولى من ملامحهم ومن جلستهم ومن شدة الظهر ومن نظرة العين ومن غياب الازدواجيه وغياب الخوف. تشعر أنه لم يعد هناك شرخ بين الصورة والحقيقة.
جاء ذات مره لعندي شباب مسلمين يريدون أن يتطوعوا بالجيش الحر وقالوا لي: وصينا أبونا؟ وهؤلاء المسلمون ينادوني تحببا “أبونا”، فقلت لهم: يا شباب حافظوا على كرامة عدوكم. وقلت ذات الشيء لضابط مخابرات فتح لي ذات يوم قلبه.
إذا إستطعنا المحافظه على هذا الشيء وتعميمه, فإنه يمكن له أن يحمينا من الوقوع في شرك الممارسات اللاإنسانيه والتشبه بعدونا. وهناك شغل مضني في هذا المجال لصيانة كرامة وحرمة جسد الإنسان كأناَ من كان، حتى لو كان عدوك الذي ظلمك وعذبك واستباحك. فعندما تسمح لنفسك بتشويه كرامة عدوك (الذي تنازل عنها وشوهها بنفسه) فأنت تشوه كرامتك وتتنازل عنها. وسورية الجديده يجب أن تبنى على هذا الأساس ويجب أن ترسخ فيها ثقافة حقوق الإنسان الحديثه التي لا تسمح بمس الأسير أو المعتقل وتعذيبه, مهما كانت الجرائم المتهم بها.
وكم كان مهما ومؤثرا ما قاله لي أطباء المشفى الميداني في مدينة القصير, من أنهم لا يخنون قسمهم الطبي ولا يفرقون بين الجرحى، بل يقدمون لهم كل الاسعافات الضرورية، سواء كانوا من الجيش الحر أو الجيش النظامي أو كانوا أسرى لدى الثوار. هذا هو الموقف الاخلاقي والإنساني الصحيح, أما الموقف المدان فهو ذاك الذي يقصف المستشفيات الميدانيه ولا يتوانى عن قتل الاطباء والممرضات والجرحى أو جرهم إلى غرف التعذيب. هنا الفرق وهنا تفوق الثورة الأخلاقي، فلننتبه لنحافظ على هذا الفرق ونصونه. وكرامة الوطن في النهاية تأتي من قدرة الذي ينتصر بالقيم أن يتقاسمها ويعممها على جميع أبناء الوطن, بمن فيهم من كان مغرر به من قبل النظام.
وحتى تكتمل الصورة، أحب أن أشير إلى أنه في داخل الثورة مجموعات تسيء إليها وتستفيد منها, أكثر بكثير مما تفيدها. هناك مجموعات سرية متطرفة دينيا، ومع كل احترامي لمعتقداتهم ولدوافعهم، لكن المجموعات السرية المتطرفة والمنغلقه على نفسها هي سرطان للثورة, سرطان للقضية، وعلينا جميعا أن نجفف مستنقعات السرية والتطرف التي يقتاتون منها وأن نستردهم إلى الحراك الثوري الحقيقي. فهذه الفئات هي المبرر الأعظم للاقليات حتى يصطفوا مع النظام، وهي المبرر الأكبر للعالم الغربي حتى يتركنا سنة أخرى نواجه مخاطر الحرب الأهليه. وفي النهاية الثورة التي لا تضبط نفسها، هي ثورة خاسرة اليوم وغدا.
س/ اسمح لي أن لا أتقف معك في إستخدامك لمصطلح الحرب الأهليه في الحاله السورية, كون احد الأطراف يملك جيش جرار وأسلحة ثقيلة وأجهزة أمن، والطرف الآخر لا يزال يغلب عليه الطابع الاهلي؟ صحيح أن هناك نظام يتعامل مع شعبه بمنطق الحرب الأهليه، لكن في المقلب الآخر هناك مقاومة بطوليه لمنطق الإنجرار إلى الحرب الأهلية، ما رأيك؟
في سورية هناك ثورة. والجديد فيها، كما هو الحال في كل ثورات الربيع العربي، هو ثورة الشباب وهذا هو الشيء الذي لم يفهمه لا الدكتور بشار الأسد ولا بوتين ولا أحمدي نجاد، الذين لا هم لهم سوى الاحتفاظ بالسلطة مستخدمين مبررات من مثل الممانعه أو المقاومة أو أهل البيت أو حتى المصالح القومية لروسيا الاتحادية.
نعم في سورية هناك ثورة وأنا اقرَ بهذا ومن حق الشعب السوري أن يقوم بهذه الثورة، لكن هناك بالتوازي مع هذا، حرب أهلية كون النظام إستطاع على مدى سنيين طويله أن يجمع من حوله فئات من المجتمع. وبغض النظر كيف نجح في جمع هذه الفئات، بالمخاوف أوبالأوهام أو بالمصالح أو بالتهديد، فإن هذا الجزء من المجتمع متخثر من حول السلطة ومن حول آل الأسد وهو مستعد أن يحارب من أجلهم. وللآسف حتى جغرافياً، فأن جزء مهم من هذه الفئات متجمع في مناطق بعينها، حيث بوادر الحرب الأهليه وقسوة القمع ماثلة للجميع في مناطق الاحتكاك اتلي أسميها المناطق الشهيدة وهي الواقعه على أضلع المربع الممتد بين نهر العاصي ومدن الساحل السوري، وهذا هو نطاق الحرب الأهليه.
س/ أريد أن أسألك رأيك بفئة أخرى من المجتمع, لم تقتل يوما حشرة في حياتها وهي غير مستعدة ابدا أن تقتل أوتغتصب أو تعذب أو تمارس العنف المباشر، لكنها في ذات الوقت تستمر في تأييد النظام وتتعامى عن عنفه وترفض بشكل عصابي تصدق أو تقر بإنتهاكات النظام؟
هذه للآسف آلية قديمه ومعروفة. أنا سمعت شخصيا بإذني هاتين، سيدات من المجتمع المخملي، وهنّ من أنظف الناس وأكثرهم أناقة وثقافة، يقولون بكل راحة ضمير: “معليش سوريا من دون مليون أو مليونيين زيادة، خلينا نخفف شوي من هذه الزبالة. شو المشكلة”.
أنه البغض الذي يجد سبيله إلى القلب والخوف الذي يعمي البصيرة. هؤلاء الناس هم من طينة السكان البولونين والألمان الذين عاشوا حياة طبيعية من حول معسكرات الابادة النازية، يمارسون حياتهم الاعتيادية ويزرعون أراضيهم ويرسلون أولادهم للمدارس ويتظاهرون أنهم لا يعرفون وهم في العمق يعرفون ماذا يجري في جوارهم من جرائم ضد الإنسانية.
هناك أناس تعرف في العمق أن هذا النظام قائم على القمع والقتل والخوف، لكنها تتعامى عن كل هذا ولا تنفك تردد أن هذا النظام يحمينا وأنه في حال سقوط النظام ستنفلت الوحشية وستفقد الإنسانيه، مع أنها تعلم علم اليقين أن الوحشية هي تلك التي تمارس في زنازين النظام وأن الإنسانية هي التي تستباح في معتقلاته.
س/ رغم الدور المهم الذي تلعبه العديد من الناشطات والناشطين السورين من ابناء الطائفة المسيحية في صفوف الثورة، فإن هناك حالة جفاء طبعت علاقة الكثير من أبناء الطائفة المسيحية بالثورة، ماذا تقول للخائفين أو المترددين منهم؟
دعنا نقول أولا أن السجون جمعت كل أطياف وألوان الشعب السوري، وهذا الشعب يعرف بالعمق ان جميع مكوناته دفعت ثمنا باهظا في سبيل نيل حريتها.
مع ذلك كل ما أريد أن اقوله للمترددين: هو أن المتأخر أحسن من الغائب، فهلم نلحق بالصحيح. وهلم بالاهتمام بالضحايا وهلم باستقبال النازحين وهلم برعاية المحتاجين وهلم بالرحمة على اليتامى. أقول لمن يشعر منهم أن هذه الثورة ليست ثورته، لا بأس ولكن لتكن حياديا ايجابيا ولتمارس ما يقوله دينك: طوبى للفقير وطوبى للذي يبحث عن السلام وطوبى للذي يُضطهد في سبيل البر.
س/ ماذا تقول للخائفين والساكتين من ابناء الشعب السوري كافة؟
أقول أن الخوف يمكن أن يجعلك متأمراً مع النظام ويمكن أن يجعلك جزء لا يتجزأ من النظام ويمكن أن يجعلك مجرم حرب. وبالتالي فلا يتخيل احد أن خوفه، يمكن أن يجعل منه بريئا.
في ذات الوقت أقول للمعارضة كلها وللثورة، ماذا قدمنا من ضمانات سياسية؟ ماذا قدمنا من ضمانات قانونية؟ ماذا قدمنا من ضمانات لحماية الخصوصيات الدينية والمحلية والقومية؟
نحن لا نريد أن نصعد إلى القرداحة بصيحة “الله أكبر” ونشيل 10 آلاف قتيل. هذه ليست ثورتنا وهذا ما لا نريده. المجرم سيوقفه العلويون أنفسهم وسيقدمونه للمحاكم الدولية. هذا ما نريد وهذا ما نسعى له، وبمثل هذا ستنتصر الثورة.
السؤال هو هل نحن نريد أن ننتصر أم نريد أن نخسر أنفسنا؟ إذا لم تعطي لعدوك مخارج مقنعه وإذا فرضت عليه المعركة كمعركة حياة أو موت, فإنه سيقاتل حتى النهاية ومن دون ضوابط.
في كل الأديان، بما فيها الإسلام، ليس هناك أقوى من الإنتقام، سوى المصالحة. وليس هناك أقوى من الثائر، سوى الغفران. نحن نريد هذا الوطن بكل مكوناته وبكل قراه وبكل مدنه وبكل شعبه. بالنسبة لي الإنسان العلوي المتماهي مع السلطة مظلوم أكثر من غيره للأنه منخور في كرامته وقيمه وقلبه، ولأنه مسخر ومستعمل لهذا الاستبداد المشين. في النهاية هذا الإنسان العلوي أو الإنسان المسيحي هو مواطن نريد أن نطمئنه ونقنعه اننا نريده ونشتهيه بيننا مواطنا حرا في وطن واحد.
س/ ماذا يمكن أن تقدم الثورة من ضمانات إضافية؟ لقد خرجت الناس منذ اليوم الأول من الجوامع تنادي “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”، كما رفع الهلال والصليب من تحت قبة النسر في الجامع الأموي، واجمعت جميع قوى المعارضة على مدنية وديمقراطية الدولة بعد سقوط نظام الأسد؟
دعني أقولها بصراحة، نحن المسيحيون لا نخاف منكم. نحن المسيحيون، حتى لو لم يعجب هذا الكلام البعض، أمانة في أعناقكم، وإذا المسلم لم يحترم الأمانة التي سلمه إياه الرسول محمد، وقام بظلمنا وطردنا، فأنتم يا أيها المجتمع المسلم ستذبحون بعضكم بعضا في حروب أهلية ستمتد إلى يوم الدين. المشكلة اليوم ليست بين المسلمين والمسحيين. المشكلة اليوم هي بين المسلمين أنفسهم، وهي تتجاوز سورية نفسها، التي أصبحت فصلا من كتاب يخص الصراع السني_الشيعي في المنطقة كلها.
نحن في سورية خلقنا لنعيش مع بعض. التاريخ يطلب هذا. الجغرافيا تطلب هذا. اللغة تطلب هذا. ومن أجل أن نعيش سويا علينا بالمصالحة. لكن المصالحة لها شروط، اساسها أن تعود الحقوق لأصحابها. هناك مجرمين يجب أن يحاكموا. هناك يتامى يحتاجون الى تعويض، هناك بيوت دمرت ويجب إعادة بنائها، هناك أثاث سرق من بيوت وحارات مدينة حمص وبيع بابخس الأثمان، يجب أن يعاد لأصحابه.
س/ هناك شخصية محورية في الكنيسية الكاثوليكية في دمشق, لها مصداقية وتأثير ونفوذ كبير في أوساط المسيحيين الدمشقيين هي الأب الياس زحلاوي. وهذه الشخصية الدينية هي اليوم من أكبر المشككين بالثورة والمدافعين عن النظام، كيف تفسر ذلك؟
الأب زحلاوي هو مربي حقيقي للأجيال ومرشد للقيم الروحية الصحيحة، لكن حبه القومي لوطنه أعماه ولم يعد يستطيع أن يفهم على الشبيبة التي رباها بنفسه. وأنا متأكد أن هذا الجيل سيغفر له، إستطفافه مع النظام الذي ظلمه وظلمنا، وهو يعرف هذا. وهذا الاستطفاف يأتي في رأي من خوف عميق من الإسلام السياسي. فالأب زحلاوي المعروف بانفتاحه وروحانيته ومعاداته للظلم ولقوى الطغيان العالمي، جعله خوفه هذا، لا يرى أو لا يريد أن يرى! أصدقاؤه في السجن وهو لا يريد أن يرى! طلابه وشبيبته في معتقلات الاسد وهو لا يريد أن يرى! أنا أكيد أنه يساعد ويحاول أن يخرج الشباب من السجون، لكنه مع ذلك لا يريد أن يرى!
مع ذلك أنا لازلت مؤمنا أن الاب زحلاوي هو الإنسان الذي يجب أن لا تخسره الثورة. فنحن نحتاج اليه بعد الثورة، كما كنا نحتاج اليه قبل الثورة في سبيل تنشئة الجيل الجديد على قيم الانفتاح والتسامح والأخوة. لقد ربى هذه الشبيبة التي قامت بالثورة التي لم يستطع أن يراها، فالتغفر له خطيئته. وآخر أيامه في سورية الحرة سيشكر هو في كلامه السوريين الذين حرروه وحرروا كلمته وحرروا موقفه.
س/ معنى هذا أن الثورة إذ نجحت ستحرره من خوفه من الاسلام؟
لا تستخدم “إذا” الشرطية. مافي “إذا”! لتقل عندما تنجح الثورة ستحرر الكثير من المواطنيين من خوفهم من الإسلام لأنها ستريهم وجها آخر للإسلام متنور ومتسامح بعيد عن التعصب والفئوية وعن تسخير الدين لغايات سياسيات ضيقة أو فئوية.
س/ ماذا يمكن أن تقول لبشار الأسد شخصيا؟
يا ليته يسمع ما قاله له الرئيس التونسي بأن يتنحى ويرحل وليرحم نفسه ويرحمنا. العدل يمكن له أن ينتظر قليلا، ولكن ليرحل وليوفر على هذا البلد وهذا الشعب المزيد من العذاب. أقول له: أنني متأسف جدا على كل الفرص التي وضعها السوريون بين يديك ولم تحسن إستغلالها. أنا شخصيا بعثت لك أكثر من عشر رسائل في السنيين الماضية، لكنني لم أنجح في فتح ثلمة في جدار الإنغلاق والتحصن والتشبث بالسلطة. أكيد هناك مسؤلية شخصية ولكن أنت برأي ضحية قدرك التعيس وضحية هذا النظام الذي أورثه لك والدك. أنا جد متآسف وأتمنى أن أستطيع مساعدتك، وواجبي الإنساني أن أمد يد المساعدة، إذا كان هناك من سبيلا.
س/ ما هي أصعب الأوقات التي عشتها داخل سورية خلال الثورة؟
أصعب لحظات كانت لحظات الإنفجارات الكبيرة في دمشق، أحسست أن قوى الشر شنت الحرب على الشعب السوري وأن الكذب وصل إلى النخاع الشوكي، وأن التأمر والسينيكيه في مستنقع المافيات والمخابرات يقدم لنا أبشع ثمراته. صحيح أن هناك فئات دينيه متطرفه، لكنها مسخرة. كانت مسخره على يد السي أي إيه في أفغانستان ومن ثم سخرت على يد غيرهم في العراق، وأستخدمت بالرومون كونترول في لبنان، فلا جديد على الشاشة.
أنا كتبت رسالة مفتوحه إلى كوفي أنان، أقول له فيها: إذ كان سكرتير الأمم المتحدة بون كي مون يتكلم بأنه صار واضحا أن هناك “القاعدة”، فهل أنتم بالأمم المتحدة إلى هذه الدرجة أغبياء وجهال! ألا تعرفون في الأمم المتحدة أن هذه الفئات المتطرفة تستخدم وتسّخر، ليس فقط من قبل المستنقع المخابراتي السوري، ولكن أيضا من قبل المستنقع المخابراتي الدولي.
س/ كيف تفسرغياب التضامن الفعال مع الثورة السورية من قبل منظمات المجتمع المدني في الغرب ومن قبل الكنائس والنقابات واهل الثقافه والفن؟
السبب الأول هو التخويف من الفزاعة الإسلامية. فقد نجح هذا التخويف في تثبيط مشاعر التضامن في صفوف شرائح المجتمعات الغربية. هذا ناهيك عن الإشباع الإعلامي الذي يبطل أهمية وأولوية المآساة السورية وجعلها خبراً من بين بقية الأخبار في نشرات الأخبار.
س/ دير مار موسى هذا المكان الرائع المتربع في جبال القلمون على بوابة الصحراء، بقدر إرتباطه بالأرض والتاريخ، صار منذ أن سكنته ورممته وأحييته، شديد الإرتباط بشخصك وإسمك. كيف هو شعورك وأنت مبعد اليوم قسرا عن هذا المكان، وهل سيكون هذا الدير يوما هو منتهاك؟
شعور بألم الشديد، لا يمكن وصفه. لقد قلت سابقا: ما أحلى الموت في سورية، من الخروج إلى المنفى. أنا خرجت اليوم إلى المنفى لأذوق ما تذوقه آلاف وآلاف من السوريين منذ عشرات السنين، وطعم المنفى حقيقة مرّ. عندما وضعوا ما سموه دستورهم الجديد، كتبوا فيه أن رئيس الجمهورية يجب أن لا يكون مقيما خارج سورية. قلت في نفسي عن ماذا يتكلمون! فكل الذين هجروا ورميوا في المنافى وظلموا، لاقيمة لآلامهم وعذاباتهم، ومشكك في الدستورالجديد بصدق إنتمائهم للوطن.
أما أين هو منتهاي؟ فأنني أذكر في ذكرى الجمعه العظيمة العام الماضي خرجنا من الدير إلى الوادي باتجاه مقبرة الرهبان بالقرب من صخرة ضخمه. هناك لاحظت مكانا ضيقا، بطولي تقريبا، يمتد بين شق صخري وبين شجرة زينون زرعها أحد الرهبان ونمت بين الصخور، فقلت للجماعه: إذا أراد الله وترحم عليّ، فهنا مثواي. إن شاء الله أن يستجيب لهذه الأمنيه.
س/ أبونا باولو، برأيك هل مصير هذه الثورة النجاح في النهاية؟
هذا ليس رأي، هذا رأي الحق. هذه الثورة، الله قدرها للنجاح، لأن ما دفع لها من ثمن مقدر عند الله، وما ذهب من ضحايا أبرياء هو فوق كل ما يمكن أن يبذل. والله لا يمكن له أن يضيع عذابات اليتامى والأرامل ولا أن يفرط بتضحيات الأهالي.