حوار مع الدكتور حازم نهار
سوريا إلى أين؟
خاصّ بـ الآداب
الدكتور حازم نهار كاتب وسياسيّ سوريّ معارض. له عدّة كتب، منها: مسارات السلطة والمعارضة في سورية (2008). ترجم عن الإنكليزيّة أكثرَ من عشرة كتب، منها: سورية: الاقتراع أم الرصاص، وسورية: ثورة من فوق. رئيس تحرير المجلة الفكريّة الحقوقيّة، المشكاة. وهو ناشط سياسيّ، ساهم في بناء «هيئة التنسيق الوطنيّة» و«المجلس الوطنيّ السوريّ» لكنه ليس عضوًا في أيّ منهما. يعمل حاليًّا من خلال «المنبر الديمقراطيّ السوريّ» الذي يضمّ عددًا من الكوادر الثقافيّة والسياسيّة.
1- ما طبيعة الحراك الشعبي، بواعثه، محركاته، والتعديلات التي جرت عليه في سياق الصراع المفتوح ودموية النظام؟
ما يحدث في سورية هو ثورة حقيقية ضد نظام مستبد وفاسد، وأسباب هذه الثورة موجودة منذ زمن بعيد في الميادين كافة، في السياسة والاقتصاد وأحوال المجتمع، وما حدث في درعا كان بمثابة أسباب قريبة أو مباشرة لهذه الثورة، وقد حمل شعارات هذه الثورة مجموعة من النشطاء المدنيين، ونعرف جميعاً كيف حاول النظام بكل قدرته تحييدهم عبر القتل أو الاعتقال من أجل ترك الشارع الثائر دون بوصلة أو توجهات واضحة.
لكن عندما نتحدث عن حركة شعبية على مدار أكثر من عام من الطبيعي أن يكون هناك تعديلات تصيبها في بنيتها وتوجهاتها، مصدرها إما ذاتي أو موضوعي بحكم الظروف السياسية والميدانية التي تحيط بها.
حدث تطور سلبي عندما دخلت القوى السياسية على خط الثورة وبدأت تنقل إليه عاهاتها وأمراضها ومصالحها، وقد تجلى ذلك في رفع شعارات أيديولوجية في بعض الأماكن، وتسييس عمليات الإغاثة بحيث تصل أموالها لفئات دون غيرها. وهنا أصبحنا أمام بوادر لانقسام الحراك الشعبي بين تيارات مختلفة. في لقاء استنبول الذي تمخض عن ولادة “المجلس الوطني السوري” قلت لأحدهم: إذا كان الإسلاميون في مصر قد أخذوا الصف الثاني في ثورة مصر، فإنهم في سورية، بحكم تركيبتها، يجب أن يأخذوا الصف العاشر، طبعاً إن كانوا مهتمين بنجاح الثورة، وهذا للأسف لم يحدث، ولا يبدو أنه سيحدث، فالتيار الإسلامي عموماً كان ولا زال متعجلاً لتصدر المشهد السياسي في الثورة، وهذا باعتقادي خطأ سياسي كبير.
كذلك ساهم ارتفاع وتيرة عنف النظام وتجاوزه لكل الخطوط الحمر، ومحاولته إضفاء طابع طائفي لعنفه ضد المتظاهرين في ظهور ردات فعل لدى بعض الشرائح التي استجابت تحت سياط العنف للعبة النظام. وفضلاً عن ذلك قام النظام بإطلاق سراح الكثير من الجنائيين كي يدخلوا في الحراك الشعبي ويساهموا في تشويه صورته من جهة، ودفع السوريين لاتخاذ موقف سلبي من العسكريين المنشقين عن طريق نسب ما يقوم به الجنائيون إلى الجيش الحر.
صحيح أن بعض أجزاء الحراك الشعبي بدأت تصدِّر خطاباً دينياً، لكن الصحيح أيضاً أنه عندما تترك شعباً ما وحيداً وأعزل تحت نيران نظام لا يرحم، ويحوِّل حياته كل يوم إلى جحيم، فإن هذا الشعب سيلجأ إلى ما يعينه على التحمل حسبما ورث من ثقافته، ولا يمكن وضع الملامة على الشعب، وبالتأكيد ليس المطلوب من شعب يقتل أن يغني لفيروز.
من جانب آخر، لقد نمت توجهات الناس وقناعاتهم عموماً في ظل بيئة سياسية-ثقافية مسيطر عليها بشكل مطلق من النظام، فالنظام امتلك، لمدة نصف قرن، الأرض السورية وما عليها، وأجهزة الدولة والجامعات والمدارس والإعلام والجوامع وغيرها، وبالتالي من البديهي القول أن الثقافة السائدة في المجتمع السوري هي من إنتاجه بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد أظهرت الثورة هشاشة ثقافة النظام “العلمانية” التي لم تلامس إلا السطح، وسرعان ما رمى بها السوريون، وليظهر أن النظام وحزبه الحاكم لم يكونا إلا على شاكلة أي نظام سلفي في العالم. ويمكننا هنا أن نلاحظ مثلاً، كيف أن المسيحيين في سورية بعد ثورة 8 آذار قد عوملوا كمواطنين من الدرجة الثانية دستورياً، وبالتالي مواطنياً، فيما كانوا في بدايات القرن العشرين وحتى فترة الاستقلال هم رواد النهضة والفكر والسياسة في البلد.
2- هل تضعنا في تصورك عن آلية عمل النظام، وانطلاقاً منها كيف ينعكس ذلك في سلوكه من الحراك الشعبي والمجتمع والدولة؟
كان واضحاً لي منذ البداية أن النظام لن يعترف بأن ما يحدث في سورية هو ثورة، لأن هذا ببساطة ينزع “شرعيته” المزعومة، لذلك اعتمد آلية إعلامية تقوم أساساً على تشويه الحراك الشعبي كما قلت سابقاً، ويظهر واقعياً أن النظام أسند لمواليه ومحازبيه العمل استناداً للقاعدة: “تصرفوا بشكل طائفي كي تدفعوا الآخرين للرد بشكل طائفي، ومن ثم تكون النتيجة انفضاض بقية المجتمع عن الثورة وأصحابها”.
كذلك وضع النظام خيار تحويل البلد إلى خرابة وإشاعة الفوضى أمام السوريين، ونشر هذا في إعلامه وممارساته، واتضح جلياً في شعارات على شاكلة: “الأسد أو نحرق البلد”، “الأسد أو لا أحد”. وبالطبع هذا عنصر أساسي في موقف الكتلة الصامتة في المجتمع السوري، فالتخوف من الفوضى والحرب الأهلية وحالة عدم الاستقرار تشكل العنصر الأبرز في تردد كتلة واسعة نحو المساهمة في الحراك الشعبي، رغم أن هذه الكتلة تعرف النظام جيداً ولا تثق به وتشترك مع الآخرين في تقييمه كنظام استبدادي وفاسد.
يمكن ببساطة الاستنتاج أن التفجيرات التي يقوم بها النظام اليوم، بعضها صوتي وبعضها الآخر يذهب نتيجته ضحايا، غايتها بث القلق وعدم الاطمئنان في نفوس السوريين، ودفعهم لتفضيل بقاء الوضع الراهن على خيار الفوضى وعدم الاستقرار، وكأن النظام ينذر الجميع بأن الاستمرار في المطالبة بالحرية وإسقاط النظام من شأنه أن يجعلكم تخسرون حياتكم كلها.
لا زال النظام يعتقد أنه في المآل سيُخضِع الثورة، ومن ثم سيعيد البلد إلى سابق عهدها، ومن ثم يقوم حسب مزاجه بتقديم رتوشات تجميلية تُظهره أنه صاحب رؤية إصلاحية، وأن الثورة لم تكن إلا تخريباً ومؤامرة، ليتفرغ بعدها لترميم ووصل علاقاته الخارجية، لكن أعتقد أنه واهم، وما عاد بالإمكان العودة للوراء.
3- هل هناك إمكانية لتجاوز النظام لتصلبه وحلوله الأمنية والعسكرية باتجاه عمل سياسي؟ البعض يقول إن طرح المعارضة لفكرة “لا للحوار” قادت الى المزيد من الدمار والمزيد من القتل.. ما رأيكم؟
لا يمتلك النظام السوري لا النية ولا القدرة على السير في حل سياسي. فالنظام الاستبدادي في طبيعته مغرور ولا ينظر لسورية والسوريين إلا من زاوية بقائه، وعندما يطرح مقولة “الحوار” فهو لا يعني من خلالها أبعد من جلب الآخرين إلى ساحته ووضعهم تحت خيمته واندراجهم في الآليات التي شيَّدها على مدار أربعين عاماً، مع إجراء بعض التعديلات التي لا تمس بجوهر النظام، ولا زال يعرض الحوار بمنطق أنه صاحب البلد، والآخرون مجرد ضيوف عليه، وقد اتضحت نتيجة الحوار المقصود سلفاً بالنسبة لي، وهو الذهاب نحو سورية لتكون كمصر في عهد مبارك، أي استمرار النظام بآلياته مع تعددية فارغة لا تهش ولا تنش، وليس مستبعداً أن يسمي ذهابه نحو هكذا حوار أنه منجز من منجزات حركته التصحيحية أو إحدى علائم مسيرته التطويرية والتحديثية.
لا يستطيع النظام، حتى لو أراد، الذهاب نحو حل سياسي حقيقي وجدي، لأن ذلك متخارج مع طبيعته وبنيته، فأي حل سياسي جدي كفيل بهدم كل أركان النظام، فالحوار الحقيقي والتعددية والاعتراف بالآخر وحقوق الإنسان والجماعات، كلها غير واردة في قاموسه، وليس لها دلائل أو نقاط ارتكاز في كل تاريخ النظام، بالتالي هو لا يتقن التعامل مع ظاهرة الاحتجاج الشعبي إلا بالقتل والاعتقال والتعذيب والتشريد وهدم البيوت والتشهير بالمعارضين وتشويه أي تحرك شعبي، وهو لا يريد من المجتمع السوري إلا أن يكون متفرجاً وصامتاً ومباركاً لكل ممارساته.
بعض الموالين يثيرون السخرية عندما يطالبون بالصبر والتوقف عن التظاهر تحت شعار “إعطاء النظام الفرصة لتطبيق الإصلاحات” أو “تأييد مسيرة الإصلاح”، وكأن النظام جاء إلى الحكم اليوم، كالمستجد في أمر ما ويحتاج إلى فرصة لإثبات أهليته أو جدارته، وكأن مرور اثني عشر عاماً في حكم مطلق غير كافية لإبداء الرأي في طبيعة النظام وتوجهاته وآلياته وأدائه. إن هذه الفترة كافية لقلب سورية رأساً على عقب لو توافرت النية والإرادة.
ومع ذلك قدمت المعارضة السورية في الداخل للرأي العام رؤيتها لأي حوار وطني في بدايات الثورة في بيان للتجمع الوطني الديمقراطي بتاريخ 13 نيسان 2011 باسم “برنامج النقاط الثمان لأجل إطلاق الحل السياسي في سورية”، وهذه النقاط هي: وقف القتل وسحب الجيش والأجهزة الأمنية، الإفراج عن جميع المعتقلين، وقف الحملة الإعلامية للنظام ضد المتظاهرين، ضمانات قانونية للتطبيق الفعلي لرفع قانون الطوارئ والأحكام العرفية، لجنة تحقيق مستقلة ونزيهة لتقديم كل المسؤولين عن إطلاق النار على المتظاهرين إلى محاكمات عادلة، السماح بدخول مختلف وسائل الإعلام ولجان حقوق الإنسان، ضمان حق التظاهر السلمي بموجب علم وخبر وحسب، الإعلان الرسمي عن البدء بالحل السياسي عبر الإقرار أولاً بإلغاء المادة الثامنة من الدستور والاعتراف القانوني بحق تبادل السلطة.
في المحصلة “الحوار” ليس كلمة إيجابية أو سلبية، فهو في جوهره “تفاوض”، والتفاوض خاضع بالضرورة لموازين القوى، ولن يقبل النظام بحوار ندي ومنتج وحقيقي يؤدي لبناء سورية جديدة، وليس مجرد القيام برتوشات تجميلية، إلا إذا تحقق تهديد حقيقي لسلطته.
4- يبدو الانشقاق عن النظام متفاوتاً بين أطراف المعارضة. ما سر تعدّد مواقف المعارضة من النظام؟ هل هناك شق إيديولوجي كالنظرة العدائية إلى “الخارج” وتحديداً الغرب؟ وماذا عن الحساسيات الطائفية والأثنية، هل لها فعلاً انعكاس في ذهنية الأطراف السياسية، وعلى قراراتهم، كما يدعي البعض؟
أعتقد أن تشخيص النظام كبنية وآليات وتوجهات معروف بالنسبة لجميع أطراف المعارضة، مهما تنوعت انتماءاتهم وتصوراتهم، فكل تشخيصات المعارضة تقوم على أن النظام بنية مغلقة عصية على التغيير وغير قادرة عليه ولا راغبة فيه، ومنذ انتهاء ربيع دمشق كانت المقولة الدارجة في أوساط المعارضة هي أن “النظام لا يَصلُح ولا يُصلِح ولا يُصلَح”. وهذا أصبح واضحاً للطفل الصغير في سورية، فالنظام ليس أكثر من سلطة ضيقة مستعدة لسفك دماء السوريين واضطهادهم دون هوادة للإبقاء على هيمنتها على البلاد، وأنّها لم تتوان عن استثارة العنف والطائفيّة والتدخّلات الأجنبيّة كي لا ترحل.
لكن تختلف طريقة التعبير عن هذا التشخيص، وبالتالي إعلان الموقف الواضح من النظام بين فترة وأخرى، واستناداً لموازين القوى القائمة، أو بحكم القراءات المختلفة للظروف القائمة وتعقيداتها.
تنظر بعض قوى المعارضة بعدم ثقة بقدرة الحراك الشعبي على إسقاط النظام، وترى ضرورة تحقيق مكتسبات سياسية للمعارضة والمجتمع السوريين عن طريق استغلال الضغط الشعبي الذي سيستطيع النظام في المحصلة السيطرة عليه، خاصة لاقتناعهم أن بعض الدول الإقليمية تحرس النظام ولن تسمح بزواله، فضلاً عن رعاية روسيا والصين. وتنظر بعض القوى الأخرى أن المطلوب في هذه اللحظة هو إجبار النظام على إجراء تغييرات جوهرية تسمح بإسقاطه على مراحل، ويعزون هذا التوجه أن النظام السوري قادر على إحراق البلد والدولة فيما لو شعر أن حتفه قد آن. قوى أخرى تمارس السياسة على أرضية الحقد القديم على النظام، وتنظر بثقة لنفسها على الدخول في معركة كسر عظم مع النظام، وقوى أخرى طرحت شعار إسقاط النظام استناداً فقط للمزاج الشعبي وطمعاً في الحصول على تأييد الشارع، دون أية خطة للمستقبل، وقوى أخرى مقتنعة بأن “الخارج” معني ومهتم بإنهاء النظام، ولا تمتلك أية طريقة أخرى لإنجاز هذا التحول. لكن من الضروري أن نلاحظ أن جميع القوى السياسية المعارضة مربكة ولا تمتلك أية خطط حقيقية لأهدافها الآنية والاستراتيجية.
5- كنت من أوائل من دعوا لإطار مشترك للمعارضة، من لقاءات دمشق والدوحة إلى اسطنبول، وشاركت في وضع أسس هيئة التنسيق الوطنية، وبعدها انسحبت لتبادر مع آخرين لتشكيل المنبر الديمقراطي السوري، كيف نفهم رأيك في المعارضة القائمة بالفعل، وإلى أين تتجهون في منبركم؟
ليس المقصود من وحدة المعارضة السعي نحو إيجاد شكل تنظيمي واحد ونهج واحد وبرنامج سياسي واحد، بل إن هذه الوحدة تعني التوافق على مبادئ وأساسيات عامة، وتوفير إطار تنظيمي يسمح بالحركة الحرة لأطرافها والمحافظة على برامجها الخاصة وهياكلها التنظيمية. الوحدة بهذا المعنى تسمح بتوزيع الأدوار والتكامل بينها، خاصة في هذه المرحلة، لصالح تحقيق الأهداف الأساسية.
استندت دعوتنا لوحدة المعارضة على ضرورة عدم إفساح المجال للنظام للعب على خلافات أطراف المعارضة، وقطع الطريق على السلوكيات والتصريحات الفردية غير المسؤولة باسم المعارضة السورية، وضبط إيقاع حركة السوريين في الخارج التي أصيبت بحالة من الإسهال المستشري لعقد المؤتمرات والإعلان عن مبادرات جديدة، وتطمين الشارع السوري بإمكانية وجود كتلة سياسية قادرة على إدارة فترة انتقالية، وإيصال رسالة للخارج ودوله بوجود بديل مناسب مرحلياً ومؤقتاً (يقال أن خطورة ثورة بلا رأس تكمن في أنها يمكن أن تتحول بعد نجاحها إلى ثورة بألف رأس)، خاصة في ظل إدراكنا أن النظام سيمنع بكل طاقته تشكل تمثيل سياسي من صلب الحركة الشعبية الاحتجاجية، وسيسعى لتقطيع أوصال المدن ومنع السوريين من الاختلاط مع بعضهم، فضلاً عن أن هذا التشكيل سيلزمه بعض الوقت كي يصبح متيناً من الناحية السياسية والتنظيمية.
لكن للأسف، ففي كل المحطات كانت القاعدة التي تنتظم سلوك المعارضة السورية بكافة قواها وتياراتها هي: “لا أحد مستعد للانضمام إلى أي أحد….ولا أحد مستعد للتجاوب مع مبادرة أحد، والكل يدعو الكل لمبادرته الخاصة”، وهذا أحد الأسباب الجوهرية في الإخفاق الحاصل.
في الحقيقة إن مصطلح “المعارضة” لا معنى له في ظل وجود نظام استبدادي شمولي، لأن الاستخدام الصحيح لهذا المصطلح لا يكون إلا في ظل نظام ديمقراطي شرعي، لكننا استخدمناه في الماضي جوازاً للدلالة على القوى الرافضة للنظام، ولم يبقَ لاستخدام هذا المصطلح أي مبرِّر على الإطلاق مع انطلاقة الثورة السورية، لكننا استخدمناه أيضاً باعتباره جسراً مؤقتاً للعبور لمرحلة جديدة.
أعتقد أن الثورة تعني بالضرورة خلق نظام جديد وقوى جديدة، لذلك من الطبيعي أن تتحلل جميع القوى التي اندرجت في الماضي، ولا زالت للآن، تحت اسم “المعارضة”، ولا بد أن المستقبل سيسمح بتشكيل قوى جديدة مدنية وسياسية تقطع مع ثقافة وممارسات النظام والمعارضة على حد سواء.
فالأساس في هذه اللحظة السياسية هو إفساح المجال للثورة الشعبية لتعبِّر عن نفسها سياسياً، وليس بروز وتنافس أحزاب المعارضة التي سيعاد تشكيلها وصياغتها في ضوء إنجازات الثورة، خاصة أن سورية مقبلة بالضرورة على مرحلة يعاد فيها تشكيل الأحزاب ورسم اصطفافات سياسية جديدة.
أما بالنسبة للمنبر الديمقراطي، فهو كتلة تشاركية وتعاونية من الكوادر الثقافية والسياسية والفنية والمدنية والشبابية والنشطاء، وهو ليس كتلة سياسية أو حزباً سياسياً، ولا يطرح نفسه منافساً أو بديلاً لأحد، إنما هو هو ميدان للتفكير والعمل وإنضاج الرؤى والتصورات حول الثورة والمرحلة الانتقالية ومستقبل سورية، وساحة يتم فيها بناء التوافقات وإنضاج المشتركات بين السوريين من أطياف سياسية وفكرية متنوعة، فضلاً عن كونه مجالاً لتقديم المساعدة المعنوية سياسياً وإعلامياً، ولذا يرى المنبر أن له دوراً رقابياً وأخلاقياً ضرورياً بمقدار نجاحه في أداء هذه المهمات، وبمقدار ما يمكن أن يستجلبه من ثقة الآخرين به.
6- كيف تقيِّم أداء المعارضة منذ بداية الثورة، وهل كانت بمستوى الحدث والمتطلبات؟
أمراض المعارضة السورية أعرفها جيداً منذ زمن بعيد، ولم أتفاجأ بها، بعضها ذاتي وبعضها الآخر موضوعي، ومنذ بداية الثورة كانت لقاءاتي الإعلامية مربكة كلما أتت سيرة المعارضة ودورها، إذ يتنازعني موقفان، هل المطلوب التستر على الوضع المزري للمعارضة، وإظهارها بمظهر الكتلة الواحدة المتوافقة ضد النظام؟ أم المطلوب نقدها ونشر أمراضها على الملأ لدفع السوريين لتجاوزها في لحظة سياسية مفصلية؟.
لقد تكشَّفت الأشهر الماضية عن نواقص وثغرات وعيوب عديدة في المعارضة السياسية بالمجمل، ومنها: ظاهرة الكل ضد الكل، وحملات تشهير دائمة على مستوى الكتل السياسية والأفراد، وظاهرة الذات الفردية التي تضع نفسها فوق الجماعة والبلد والثورة، والسعي إلى الكسب المؤقت والتنازع على المناصب على حساب الرؤية الاستراتيجية والسياسية، وظاهرة اختزال السياسة إلى مجرد “شعارات”، وظاهرة “الشبيحة الجدد” الذين يستندون إلى أرضية النظام السياسية ذاتها، وظاهرة “البلاهة السياسية” التي جعلت الجميع يفهم ويعرف بكل شيء فجأة ودون تعب.
من الجدير هنا القول مع الياس مرقص أن السياسة دون جناحي الفكر والأخلاق تتحول إلى مجرد “زعبرة”، وإلى عمل لا طائل منه، وربما هذا ما يجعلني أصف البعض بأنهم مجرد طفيليات تعتاش من أخطاء النظام وحسب، وليس من نتاج أفكارهم وأعمالهم ومبادراتهم.
ولعل الأسوأ كان سعي البعض للعب على مشاعر الناس بهدف الحصول على المكاسب والتأييد، ونسوا أن الشعب يقول كلمته دائماً بالاستناد لمعطيات معينة، وعندما تتغير المعطيات يتغير رأي الشعب. فأي قول للشعب هو قول غير نهائي، وأي تأييد من الشعب لفرد أو مجموعة هو غير نهائي.
إذا كان السياسي أو المثقف يبني خياراته ومواقفه بالاستناد فقط إلى رأي الناس في لحظة معينة فلا ضرورة لوجوده، إذ لا معنى لوجود المثقف أو السياسي إذا لم يكن قادراً على التأثير في رأي الناس ومالكاً لرؤية استشرافية للمستقبل بعد فهمه واختزانه لمعطيات الحاضر، وبالمقابل إذا كان هذا السياسي أو المثقف يبني خياراته فقط استناداً للأفكار والأيديولوجيات التي يحملها فهو حكماً في عداد الموتى ولا ينتج إلا سياسات مفتقدة للحياة.
7- كيف تنظر لتعامل المعارضة مع قضيتين حساستين هما العسكرة والتدخل الخارجي؟ ما نظرتكم الشخصية للجيش السوري الحر، هل هو على مستوى المسؤولية؟ وما رؤيتكم لمسألة التدخل الخارجي، خاصة في ظل تركيز بعض الاتجاهات والشخصيات المعارضة على ضرورته، ألا ترون أن هذا الأمر سيبقى نقطة خلافية؟
تعاملت المعارضة السورية مع أغلب القضايا بإحدى طريقتين، إما أخلاقيات تطهرية تعففية، أو براغماتية مغالية، ومرعبة ومخيفة للكتلة الأكبر من السوريين. الأخلاقيات التطهرية مصدرها وقاعها أيديولوجي عفن، والبراغماتية المفرطة مرتكزاتها في الغالب الأعم ذاتية ومصالح شخصية أو حزبية ضيقة. وتترتب على هاتين الطريقتين في التعاطي مع الأمور والقضايا السياسية أمراض وأخطاء خطيرة، إما من فرط التطهّر أو من ارتفاع منسوب القذارة.
ما أعرفه أن السياسي لا يتخلى عن مهامه في أية لحظة سياسية. لم أكن مع عسكرة الثورة بالمطلق، لكن عندما تصبح العسكرة أمراً واقعاً رغماً عني علي أن أنتقل لمهمة أخرى هي محاولة تنظيمها وضبطها لتكون في أضيق نطاق ممكن، لا أن أجلس وأستمر في خطاب شتَّام للعسكرة أو أعتزل السياسة لأن الواقع لم يذهب في الاتجاه الذي أريده.
كذلك الأمر بالنسبة للتدخل العسكري الخارجي، فالحقائق السياسية تبقى أقوى من الشعارات، والجميع مضطر للتعامل مع هذه الحقائق حتى لو لم يكن يرغبها أو يؤمن بها. بالتالي، فإن جميع القوى السياسية مضطرة للتعامل مع المسائل المتعلقة بالتدخل الخارجي وتفاصيله فيما إذا أصبح هذا الأخير حقيقة واقعة، والأمر ذاته ينطبق على المطالبين بالتدخل الخارجي، فيما لو بقي أمره في عداد الوهم السياسي.
لا نستطيع التحدث اليوم عن الجيش الحر وكأنه جيش واضح المعالم والقوام، لكن يمكن القول إن أي رؤية لا تضع التعامل مع قضية الجيش الحر على جدول أعمالها هي رؤية قاصرة، إذ إن تحول هذا الجيش إلى حقيقة واقعة، سواء أحببنا ذلك أم كرهناه، يتطلب وضع رؤية للتعامل معه، ولا شك أن وضع معايير لهذا الجيش ولعملية العسكرة قد أصبح أمراً في غاية الضرورة، كعمل هذا الجيش تحت مظلة سياسية واحدة والتزامه بالبقاء تحت سلطة هذه المظلة السياسية خلال الفترة الانتقالية حتى يعاد النظر في إعادة بناء وهيكلة المؤسسة العسكرية، والتزام هذا الجيش بالتقاليد العسكرية المعروفة ووحدة قيادته، وبالأخلاقيات المعروفة في مجال التعامل مع المدنيين والأسرى، وتحديد مهامه في حيزين اثنين هما حق الدفاع عن النفس وحماية التظاهرات السلمية، وعدم اتخاذ الانشقاقات لأي طبيعة مذهبية أو طائفية، والحرص على إبراز الروح الوطنية الجامعة، والتأكيد على أن الجوهر والأساس هو المظاهرات السلمية والمقاومة المدنية.
بالتالي، يفترض أن يكون أي عمل عسكري لا يلتزم بهذه المعايير مداناً من قبلنا جميعاً، لأنه دون ذلك يمكن أن تسير الثورة السورية بعيداً عن الأهداف التي أعلنتها لنفسها، وقد تكون الفوضى هي المصير الذي ينتظر السوريين آنذاك.
أما ما يخص مسألة “التدخل الخارجي”، فلا يكفي مناقشة الأمر بإحدى كلمتين: نعم أو لا، فهاتان الكلمتان لا تعبران إلا عن طفولة سياسية، ويفترض أن نتجاوز هذه المرحلة. فأي خيار سياسي يفترض أن يوضع بالمحصلة في ميزان الربح والخسارة من زاوية المصلحة الوطنية. يجب أن نتحدث ونناقش تفاصيل هذا التدخل – إن كان مطروحاً – وآلياته ومراحله ووسائله وأطرافه ومدته وتأثيراته ونقاطه الايجابية والسلبية والمكاسب والخسائر من زاوية مصالح سورية والسوريين، الوطنية والقومية، بحيث لا يجري الانتقاص من سيادة سورية ووحدتها أرضاً وشعباً، أو التفريط بحقوق ما للسوريين أو ضرب الدور البديهي لسورية في محيطها العربي. وعندما نناقش ونتفق على كل ذلك يمكن وقتها تحديد موقف واضح من الموضوع، أما المواقف العامة التي يجري اختزالها بنعم أو لا فإنها لا تقدِّم ولا تؤخر، وتثير البلبلة والفوضى والتشويش أكثر مما تقدِّم من الفائدة.
وفي الحقيقة لا المطالبين بالتدخل قادرون على إقناع العالم بالتدخل إن كان العالم لا يريد التدخل أصلاً، ولا الرافضين للتدخل قادرون على إقناع العالم بعدم التدخل إن كان الأخير قد عقد العزم على التدخل، فهذا الـ “الخارج” ليس رهن إشارة أحد، ولا أحد يستطيع أن يمنعه أو يحرضه، وهو لا يتدخل إلا إن أراد هو أن يتدخل، وإن تدخَّل فإنما يتدخل انطلاقاً من رؤيته واستراتيجيته ومصالحه.
والأهم أن من يدفع باتجاه التدخل الخارجي هو سياسات النظام الحمقاء منذ اليوم الأول للثورة، فالسياسات الغبية هي مصدر وأساس لكل تدخل خارجي من أي نوع. فقد دفع النظام الأمور للحد الذي أتاح التدخل في الأزمة السورية لمعظم القوى والدول العربية والإقليمية والدولية، واليوم، لا يوجد أحد إلا ويتدخل في الشؤون السورية. بالتالي المطلوب من المعارضة السورية وسائر القوى المجتمعية القيام بإدارة حكيمة لهذا التدخل الحاصل بالاستناد لمصالح الشعب السوري ككل والمصالح السورية العليا.
كذلك، فإن طلب التدخل الدولي لحماية الشعب السوري من القتل هو من حيث المبدأ مطلب أخلاقي إنساني، وهو حق أساسي للشعب السوري، وهو يشبه تماماً طلب المعونة الدولية عندما تقع كارثة طبيعية في بلد ما. وهنا يجب اللجوء لاستخدام القانون الدولي الإنساني واستثماره بما يساعد على حماية المدنيين شريطة اندراج آلياته تحت المصالح العليا للشعب السوري ووحدة سورية أرضاً وشعباً.
لكن ينبغي في هذا الشأن التخلي عن المثال الليبي في التعامل مع الحدث السوري وإسقاط مرتكزاته وآلياته من الذهن السياسي والشعبي، والعمل على ترجمة مبدأ “التدخل لحماية المدنيين” الذي دخل أروقة الأمم المتحدة والقانون الدولي عام 2005 حسب الوضعية السورية بكل جوانبها السياسية والجغرافية والسكانية والتاريخية. أي ينبغي العمل لإيجاد صيغة جديدة غير مسبوقة لترجمته، بما يحقق الهدف المرجو منه، ألا وهو منع النظام من الاستمرار بقمعه من جهة، وتفادي التدخل العسكري المباشر على الطريقة الليبية من جهة ثانية.
أما الضغط الخارجي، على شاكلة مواقف وتصريحات وعقوبات خاصة بالنظام وإرسال مراقبين عرب ودوليين وإعلام أجنبي، فهو أمر لا خلاف عليه، بل وضروري لحماية المدنيين، لكن يفترض البحث عن وسائل وآليات أكثر نجاعة وتأثيراً.
8- كيف تنظر للمبادرة العربية ومبادرة كوفي عنان في ظل ارتفاع أصوات عديدة في المعارضة تعلن فشلها؟
هاتان المبادرتان تشكلان جوهر أي حل سياسي في سورية، إضافة بالطبع إلى ضرورة التوافق على طبيعة المرحلة الانتقالية وملامح سورية المستقبل بين القوى السياسية والمجتمعية والاقتصادية. بالتالي نحن معنيون –كمعارضة- بإنجاح هذه المبادرات، رغم معرفتي أن النظام لن يلتزم، لأنها ببساطة ستؤدي إلى سقوطه، لكن من الحكمة أن يصل العالم إلى القناعة التامة أن المعرقل الوحيد لهذا الحل هو النظام السوري. على كل حال هذه المبادرات هي ما قدمه العالم لنا في هذه اللحظة السياسية، والواضح أن هناك توافقاً دولياً وعربياً حولها، وبدلاً من شتم العالم والعرب، على المعارضة القيام بكل ما من شأنه فضح كذب النظام وخرقه للمبادرات من جهة، وتقديم المساعدة في المستويات كافة للمتظاهرين والثوار والنشطاء لتوسيع رقعة تواجدهم وتغيير ميزان القوى الداخلي لصالحهم أكثر فأكثر من جهة ثانية. رحم الله الياس مرقص الذي كان يقول: “من لا يطرق الباب الضيق لا يطرق أي باب”، فمن يترفع عن القيام بالمهام البسيطة من المعيب أن يتنطع للقيام بالمهام الكبيرة.
9- ما توقعاتك في المستقبل القريب والمتوسط لسوريا؟
إن أبرز ما يميّز الوضع السوري اليوم هو الاستعصاء وعدم وجود آفاق واضحة. لا السلطة ولا الحراك الشعبي قادران على الحسم، في حين يتزايد تدهور الوضع السياسي والأمني والمعيشي والاقتصادي.
في السياسة كل شيء محتمل، وما يزيد إمكانية انتصار احتمال على آخر هو الظروف الموضوعية وإرادات البشر. بالنسبة للنظام السوري، أرى أنه أصبح خارج التاريخ، ولذلك ستلفظه قوانين التاريخ، بما يعني أن مسألة زواله هي مسألة وقت يطول أو يقصر، وقد تحدث في السياسة والواقع ظروف تؤخر زواله، لكن تعود قوانين التاريخ وتتحكم بالسياسة والوقائع. هذا الرأي لا يعني أنني أغلِّب رغبتي وآمالي، بل لأن النظام في الواقع سقطت كل مقولاته الأيديولوجية، وذهبت إلى غير رجعة مقولة الحزب القائد للدولة والمجتمع، ومقولة “إلى الأبد”، وذهبت مع الثورة كل عناصر الخوف التي زرعها النظام في السوريين، وتكشَّف النظام عن مجرد طغمة مستبدة وفاسدة، ولا يمكن لنظام سياسي أن يستمر إن كانت شرعيته مستمدة فحسب من عناصر القوة العسكرية والأمنية.
النظام لن يستطيع الاستمرار حتى لو توقفت الاحتجاجات، فقد خلق شروخاً هائلة داخل المجتمع، والسبيل الوحيد الذي يمكنه تحقيق السلم الأهلي والمصالحة الوطنية هو تطبيق برنامج العدالة الانتقالية، فإذا لم يذهب النظام فإن آلية الحقد والانتقام ستكون هي السائدة في المجتمع.
أعتقد أن الصامتين مقتنعون بهذا التوصيف، إلى جانب قسم لا بأس به من الذين كانوا موالين للنظام، فهم فقدوا الثقة به، ويرون أنه جرَّهم، بسبب غبائه وعنجهيته على أقل تقدير، إلى وضع يُظهرهم فيه أنهم داعمون لسياساته في القتل والتعذيب.
وهنا يأتي السؤال الهام: كيف يمكن أن يرحل النظام بأقل خسائر ممكنة على الدولة والمجتمع، بحيث لا يكون مسار البلد هو الفوضى في حال رحيله، والإجابة عليه هي مهمة كل السوريين.