حوار مع زياد ماجد
يتحدث الأكاديمي والناشط زياد ماجد، في هذه المقابلة، عن أبعاد الديناميكيات المدمِّرة في كل الشرق الأوسط: البيت الموحِش
مايكل يونغ
زياد ماجد أستاذ في مادة الدراسات الشرق الأوسطية والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في باريس. أعدّ أطروحته لنيل دبلوم الدراسات العليا عن سورية، وأطروحة الدكتوراه عن النظام السياسي اللبناني. قبل عامَين، صدر له كتاب بعنوان “سورية، الثورة اليتيمة”. كان ماجد من الناشطين في السياسة اللبنانية عبر مشاركته في تأسيس حركة اليسار الديمقراطي، ثم تولّى منصب نائب الرئيس فيها لسنوات، قبل انتقاله إلى باريس في العام 2006.
مايكل يونغ: يبدو أننا بلغنا منعطفاً في سورية، مع حصار الجزء الشرقي من مدينة حلب. وإذا سقطت المدينة في قبضة نظام الأسد وحلفائه، سيُحكمون سيطرتهم على معظم المدن الكبرى الواقعة بين دمشق والحدود التركية. ما الأهمية التي سيرتديها هذا النصر بالنسبة إلى الأسد؟
زياد ماجد: لاشك أنه سيكون انتصاراً مهماً، رمزياً كما استراتيجياً. أظن أن الروس يسعون منذ تدخّلهم المباشر، لابل قبله، إلى فرض سيطرة الأسد على محور درعا-دمشق-حمص-حماه، ثم محاولة الوصول إلى حلب، وبالطبع ساحل المتوسط. حينها، يمكنهم القول إن النظام سيطر على معظم المدن، وإن ماتبقّى من سورية إما تهيمن عليه الدولة الإسلامية في الشرق، أو الميليشيات الكردية في الشمال، أو جبهة فتح الشام [جبهة النصرة سابقاً] وحلفاؤها في إدلب. هكذا، يمكنهم الادعاء بأنه لم يعد هناك معارضة عسكرية جدّية ضد الأسد. فالمعارضة معزولة في مناطق محاصَرة، سواء في حمص أو شمال حماه أو الغوطة قرب دمشق أو في محافظة درعا، إنما من دون أي تواصل جغرافي بين تلك المناطق. المنطقة الوحيدة الأكبر مساحة هي إدلب، ويمكنهم تبرير قصفها بحجة أنها تخضع إلى سيطرة “تنظيم إرهابي”.
لكنْ ثمة هنا عامل جديد يتمثّل في التدخل التركي في الشمال، والذي قد يتيح للجيش السوري الحر توسيع منطقة سيطرته حول نهر الفرات.
إذن، نعم. سيكون الاستيلاء على النصف الشرقي من مدينة حلب تطوراً مهماً، لكنه لن يعني في الوقت نفسه أن النظام سينتصر أو أن النزاع سيضع أوزاره، لأن 25 إلى 28 في المئة فقط من سورية تقع تحت سيطرة النظام. وستكون هناك دائماً احتمالات للتصدّي لهذا النظام الذي سيعوّل بصورة مطّردة ليس فقط على الدعم الخارجي، بل أيضاً على الاحتلال الخارجي. عندما ننظر اليوم إلى القوات الأجنبية التي تقاتل لصالح النظام في سورية، نرى حزب الله اللبناني، وحركة حزب الله النجباء العراقية، ولواء أبو الفضل العباس، وميليشيا عصائب أهل الحق، ولواء فاطميون المؤلَّف من الهزارة الأفغان، وضباط إيرانيين، وسلاح الجو الروسي. يتحوّل هذا الواقع بصورة مطردة إلى احتلال أجنبي. إذن، سيستمر النزاع، ربما مع توازن قوى جديد، لكنه لن ينتهي فصولاً.
يونغ: إذا دُفِعت المعارضة نحو المناطق الريفية المعزولة بعضها عن بعض، ستجد صعوبة أكبر بكثير في إحراز النصر. هل يمكن أن يكون هناك حل عسكري في هذا السياق الجديد؟
ماجد: صحيح أن المعارضة ستجد صعوبة أكبر في الادعاء بأنها تقدّم بديلاً جديّاً على الأرض عن الأسد والدولة الإسلامية. لكن في الوقت نفسه لايمكن بقاء الأسد في السلطة من دون احتلال أجنبي. وهذا الاحتلال سيساهم، مع البعد الطائفي أو المذهبي الذي يتضمّنه، في تأجيج الغضب السنّي، مايصب في مصلحة المجموعات الإسلامية المتشدّدة. سنكون أمام شكل جديد من أشكال النزاع، ولن يكون هذه المرة صراعاً منخفض الحدّة، بل سيبقى شديداً وعنيفاً. لكن صحيح أنه قد يتركّز أكثر في الأرياف، أي في مناطق ستزداد عزلة.
لكن تبقى هناك أسئلة معلّقة: كيف ستتطور العملية العسكرية التركية، وماذا سيكون دور الجيش السوري الحر في أراضٍ تتحوّل إلى مناطق محمية تركيّاً بحكم الأمر الواقع. لاندري ماذا سيحلّ بتنظيم الدولة الإسلامية ومَن سيفرض سيطرته على الرقة مثلاً. قد تصبح الرقة بديلاً بالنسبة إلى المعارضة في حال تقدَّم الأتراك باتجاهها.
يونغ: إذن، لم يعد واقعياً توقُّع رحيل بشار الأسد؟ هل ستشقّ هذه الحقيقة طريقها إلى الديبلوماسية؟
ماجد: الجواب هو نعم، إذا أخذنا في الاعتبار فقط موازين القوى الراهنة على الأرض، وهذا ما أراده الروس منذ البداية – أي القول إنه لم يعد هناك مبرّر للمطالبة برحيل الأسد. لكن في الوقت نفسه، يتعذّر التوصّل إلى حلول في سورية فيما يستمر الأسد في منصبه. في نظري، واهمٌ من يتخيّل أنه بإمكان الأسد، بعد كل ماجرى، السيطرة على كامل سورية وفرض “الاستقرار” بالقوة. هو لايملك الموارد البشرية، إلا إذا اعتمد بصورة مطردة على الاحتلال الأجنبي الذي سيؤدّي، كما قلنا، إلى اندلاع نزاعات جديدة لاحقاً. لقد انهارت دولة الأسد، وتحتاج إعادة بنائها إلى سنوات. قد يبقى الأسد في السلطة لبعض الوقت. لكن إذا أردنا حلاً لإنهاء الاحتلال، فلايمكنه أن يكون جزءاً منه.
يونغ: هل تشعرون بأنه في مرحلة ما، ستتباين مواقف إيران وروسيا في الملف السوري؟
ماجد: أعتقد أن تخيُّل بعض الأفرقاء الإقليميين، أو حتى بعض الدول الغربية، بأنه كانت لدى موسكو وطهران منذ البداية مصالح متعارضة في سورية، ويالتالي أن الحلف بينهما لن يصمد، كان مجرّد تفكير رغائبي. إذا كان صحيحاً أن لديهما نهجَين مختلفَين، وأن هناك تبايناً في الأسباب التي تدفع كلاً منهما إلى دعم النظام، فلن يظهر ذلك إلا على المدى الطويل. راهناً، لا أظن أن هذا سيحدث.
يونغ: أنتم مطّلعون جيداً على الجهود التي تبذلها المعارضة السورية. ما أجواء المعارضة في مايتعلق بالمجتمع الدولي؟ مَن يحمّلون مسؤولية مآلهم؟
ماجد: إذا كنت تقصد المعارضة المّمثَّلة في الائتلاف الوطني والهيئة العليا للمفاوضات، أظن أن الأكثرية مستاءة من الولايات المتحدة، التي لم تلتزم بـ”الخطوط الحمراء” التي وضعتها لمنع استخدام الأسلحة الكيميائية، ولم تتحلَّ بالصرامة والتماسك في سياستها في الشأن السوري. تعتبر المعارضة أن غياب الدعم الأميركي كان السبب في ما آلت إليه الأمور. إذا واصلتَ التهديد من دون أن تحرّك ساكناً، فتهديداتك لن تحظى بأية مصداقية. أما روسيا، من جهتها، فقد كسبت الوقت عن طريق المفاوضات، فيما هي تغيّر الموازين على أرض الواقع.
البعض في المعارضة يساورهم أيضاً القلق بشأن مايتم التفاوض عليه بين تركيا وروسيا. يتساءلون إذا كانت ثمة مقايضة وافقت تركيا بموجبها على التضحية بحلب في مقابل موافقة روسيا على تقدّم تركيا في بعض المناطق السورية لضرب الأكراد والدولة الإسلامية. في هذه المناطق، قد يحارب الجيش السوري الحر الأكراد والدولة الإسلامية فقط، لكن ليس النظام البتة.
أما المثقفون وفي حين يعتبر كثر منهم أن أميركا مسؤولة بقدر روسيا عن المأساة السورية، يشتكون من أن الأمم المتحدة والمجتمع الدولي يعانيان من الشلل. بالنسبة إليهم، سورية مرآة تعكس الحقيقة بأنه يتعيّن مساءلة النظام الدولي بعد إخفاقه الكارثي في سورية.
يونغ: فلنتكلم عن النظام الإقليمي. هل تشعرون أننا أمام لحظة مفصلية في مايتعلق بالدور الأميركي في الشرق الأوسط؟ أم تعتبرون أن سياسة فك الارتباط التي اعتمدها باراك أوباما كانت مجرد مرحلة بين عهدَين؟
ماجد: أظن أن هناك شيئاً جديداً للغاية، لكنني لست واثقاً من أن هذا سيحدث تغييرات جذرية مع انتهاء الانتخابات. كان بوش شديد التدخّل في المنطقة، وهذا ما اعتبره البعض جزئياً أحد أسباب الكارثة العراقية. ثم جاء أوباما مع سياسة معاكسة: انسحب من المنطقة، والانسحاب تسبّب أيضاً بكارثة. إذن، قد يقول كثر في الجانب الأميركي، إذا تدخّلنا، تلقون اللوم علينا، وإذا انسحبنا تلوموننا أيضاً.
لكنني أعتقد أنها معادلة مخطئة، لأنه في مايتعلق بسورية، لم يطلب أحد من أوباما إرسال الجيش الأميركي لاحتلال البلاد. كان المطلوب منذ البداية فرض منطقة حظر جوي. كان فرض مثل هذه المنطقة، حتى قبل أن يبدأ النظام باستخدام سلاحه الجوي، السبيل الأفضل بالنسبة إلى عدد كبير من السوريين لتشجيع وحدات الجيش على الانشقاق، لأنها لن تواجه حينها خطر التعرّض إلى القصف الجوي.
ثانياً، كانت المعارضة في أواخر العام 2011 ومطلع العام 2012 (عندما بدأ النظام باستخدام سلاحه الجوي) لاتزال أقرب إلى كونها حركة ديمقراطية، قبل صعود المجموعات الإسلامية وقبل وقت طويل من ظهور الدولة الإسلامية. لم يكن هناك مجال لاختبار الحرية في المناطق المحرَّرة أثناء تعرّضها للقصف من طائرات النظام. لو سمحوا للمعارضة بإدارة هذه المناطق كي تُظهر قدرتها على الحكم، ولو جرى تطوير قدرات الجيش السوري الحر في تلك المناطق، لكان الوضع مختلفاً تماماً اليوم.
الشيء نفسه ينطبق على الصواريخ المضادة للطائرات. لو سُمِح باستخدامها، لأمكن تعطيل جزء من سلاح الجو التابع للنظام. أعتقد أنه كان من الممكن اعتماد شكل آخر من أشكال التدخل، يقوم على التفاوض بطريقة أكثر اتساقاً مع الروس، وإفهامهم أنه على الرغم من الحاجة إلى حل سياسي، إلا أن المعارضة ستبقى قوية على الأرض ولن تقبل بانتصار النظام أو روسيا. وبالمناسبة، كان ذلك ليساهم في خفض أعداد اللاجئين والضحايا المدنيين إلى حد كبير.
كل هذا لم يحدث. قد تكون للأمر علاقة بالمزاج السائد بين الأميركيين. فقد سئموا من الشرق الأوسط. ومن الناحية الاقتصادية، لايريدون إنفاق مزيد من الأموال على الجهود العسكرية في الخارج. لقد زعم أوباما سابقاً أن النزاعات في المنطقة، مثل النزاع بين السنّة والشيعة، قائمة منذ قرون. ينطوي كلامه هذا على فلسفة حتمية ثقافوية لامنطق فيها. النزاع في سورية معاصر من الأوجه كافة، وليست له جذور تاريخية عميقة.
لا أعتقد أن أي رئيس للولايات المتحدة سيعود، بعد ماحصل في سورية، إلى أسلوب بوش أو إلى سياسة التدخّل. لعلها لحظة حاسمة في مايتعلق بالمنظومة العالمية والموقع الأميركي في الشرق الأوسط. كما أن انعطافة الأتراك نحو روسيا توجّه أيضاً رسالة مفادها أنهم باتوا أقل ثقة بأميركا ويتطلعون إلى شركاء آخرين. ربما هناك بلدان عربية كثيرة تشعر بالطريقة نفسها. لا أدري إذا كان ذلك سيدوم طويلاً، أو إذا كانت المقاربة الأميركية ستخضع إلى المراجعة، لكنني لاأعتقد أننا سنعود إلى العديد من سمات ماقبل عهد أوباما.
يونغ: بمناسبة الحديث عن العرب، شهدنا في الأعوام الخمسة الماضية انهيار النظام الدّولتي العربي. من برأيكم الخاسر الأكبر من النزاع السوري بين الدول العربية؟
ماجد: أعتقد أن السعودية هي من بين كبار الخاسرين. لقد اعتقدوا أن بإمكانهم أن يؤدّوا دوراً حاسماً، سواء في النزاع السوري أو في اليمن، إلا أنهم يزدادون عزلة على الساحة العربية. حتى الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي ساعده السعوديون على الوصول إلى السلطة ومدّوا له يد العون اقتصادياً، ينأى بنفسه عنهم في الملف السوري. استقبلت القاهرة مؤخراً المسؤول الاستخباراتي السوري علي المملوك، وكان هناك حديث حتى عن توجيه دعوة إلى بشار الأسد لزيارة البلاد. ولذا، أعتقد أن السعودية باتت أقل نفوذاً في جامعة الدول العربية، مع تعبير بلدان عدّة – بينها الجزائر ومصر، وبالطبع العراق – بوضوح عن خلافها مع المملكة حول المسألة السورية، وأيضاً اليمن وقضايا أخرى. كان الجزء الأكبر من الأسلحة السعودية والدعم السعودي للمعارضة السورية يمرّ عبر الأردن. لكن الحدود الأردنية أصبحت مغلقة، على إثر التنسيق على مايبدو بين عمان وواشنطن، مايحول أيضاً دون تمكّن السعوديين من ممارسة نفوذهم كما في السابق.
يونغ: أصبح التنافس السعودي-الإيراني فاقع الوضوح في منطقة الشرق الأوسط، ويؤثّر في معظم النزاعات. ما مآل هذا التنافس برأيكم؟ هل تعتقدون أن إيران تحاول فرض هيمنتها الإقليمية؟
ماجد: نعيش منذ العام 2011 لحظة تأسيسية في المنطقة. إذا نظرنا إلى تاريخ الشرق الأوسط الحديث، يتبيّن لنا أن هناك خمس لحظات تأسيسية منذ انهيار الأمبراطورية العثمانية: اتفاق سايكس-بيكو قبل قرن من الزمن، الذي أعقبه وعد بلفور، ثم سلسلة المؤتمرات التي عُقِدت بعد الحرب العالمية الأولى وطبعت وجه المنطقة. اللحظة الثانية كانت في العامَين 1947-1948، مع تقسيم فلسطين وإنشاء إسرائيل وما استتبع ذلك من ديناميكيات، بما فيها الانقلابات العسكرية في عدد كبير من البلدان العربية. أما اللحظة الثالثة فكانت في تشرين الأول/أكتوبر 1973، لأنها كانت الحرب العربية-الإسرائيلية الأخيرة التي تُخاض بين دول، وقد أدّت إلى انسحاب مصر من الصراع العربي-الإسرائيلي، وصعود السعودية إبان الطفرة النفطية، وكذلك صعود الإسلام السياسي. اللحظة الرابعة كانت في العام 1979، مع اندلاع الثورة الإيرانية وتصديرها عن طريق الشيعية المتشدّدة. وفي الوقت نفسه، كان هناك الجهاد في أفغانستان، الذي أتاح ظهور فريق آخر، الجهاديين، كقوةٍ مهمة.
المحطة الخامسة جاءت مع الانتفاضات العربية في العام 2011، عندما بدأت المجتمعات العربية تكشف عن تطلعاتها إلى التغيير. واجهت المنطقة – بسبب الثورات المضادة، ومكامن الضعف في المجتمعات العربية، والانقسامات المذهبية وغيرها من الانقسامات، والتدخلات الخارجية – التباساً جديداً، مع حدوث تغيير ديمغرافي مهم. أصبح نحو ستة ملايين سوري، معظمهم من السنّة، خارج سورية. وفي العراق، يصل عدد النازحين داخلياً إلى نحو ثلاثة ملايين شخص، ولاسيما لأسباب مذهبية.
وإذا نظرنا إلى الصعود الإيراني في هذا السياق، أعتقد أن إيران تسعى فعلاً إلى فرض هيمنة ما – تمتد من إيران والعراق إلى سورية ولبنان. لهذا السبب ترتدي سورية أهمية لأنها تضم أكثرية سنّية في قلب محور شيعي، إذا صحّ التعبير. لم تتمكّن السعودية من وضع استراتيجية لردع الإيرانيين أو إلحاق الهزيمة بهم، وليس حلفاؤها أقوياء بقدر الحلفاء الإيرانيين. ومنذ توقيع الاتفاق النووي مع إيران، لم يعد بإمكان السعوديين التعويل كثيراً على الدعم الأميركي. هذا فضلاً عن أنهم أساؤوا التعامل مع المسألة اليمنية. تدخّلوا عسكرياً ظناً منهم أن بإمكانهم تسوية الأوضاع هناك، لكنهم باتوا عالقين في ذلك البلد وبعيدين كل البعد عن تحقيق النصر. ويغلب الظن، على أي حال، أن إيران تدعم أعداءهم هناك.
يونغ: لكن الأكثرية لاتزال سنّية في المنطقة.
ماجد: نعم، تماماً. لكن في المقلب السنّي العربي، الدول منقسمة وعاجزة عن وضع سياسة موحّدة. يعقد بعض الموالين لإيران مقارنة مع إسرائيل: مشيرين إلى أنها قادرة على إلحاق الهزيمة بعشرات ملايين العرب مع أنها ليست أكثرية ديمغرافية، فما الذي يمنعنا من القيام بالشيء نفسه؟ إن السياسة الإيرانية تطورت في المنطقة. كانت أكثر براغماتية في مامضى. كان لدى إيران عدد كبير من الحلفاء السنّة في تسعينيات القرن العشرين وحتى اندلاع الحرب في العراق، لكنها تحوّلت نحو سلوك مسار مذهبي أكثر وضوحاً إلى حد كبير في العراق ومن ثم سورية، حتى في مصطلحاتها ومفرداتها واستعاراتها المجازية. بات الحديث يتركّز حول الشيعية و”الدفاع” عنها. لم يعودوا يخفون هذه التوجهات، في حين أنهم حرصوا في السابق على عدم الكشف عنها بهدف استمالة الشارع السنّي. والأمر نفسه ينطبق تقريباً على حزب الله في لبنان.
يونغ: هل ثمة فرصة بأن ينتهي كل هذا؟
ماجد: أخشى أنه لن ينتهي قريباً، وهنا تكمن المسألة المركزية. فهذا سيؤدّي إلى مزيد من الإحباط السنّي العربي. كان تنظيم الدولة الإسلامية في العراق أحد تجلّيات هذا الإحباط، مع انضمام عدد كبير من الوجهاء السنّة الذين كانوا جزءاً من النظام القديم، وبعض الضباط البعثيين، إلى تنظيم الدولة الإسلامية لأنهم كانوا يعانون من التهميش على يد الشيعة الموالين لإيران، وكذلك على أيدي الأكراد، لكونهم سنّة. نعاني واقعاً مماثلاً في سورية، مع الجنوح نحو مزيد من التشدّد رداً على الاجتياح الشيعي الإيراني واللبناني والعراقي للبلاد. ولذلك حتى لو حقّق الإيرانيون النصر الآن، لن يضع هذا النزاع المذهبي أوزاره في المدى الطويل من دون التوصّل إلى حلول سياسية جدّية في سورية والعراق واليمن، ومن دون عودة إيران إلى حدودها الجغرافية. ستواصل إيران ممارسة نفوذها بالتأكيد، فهي لاعب قوي في المنطقة، لكن هذه النزعة نحو الهيمنة لن تفضي سوى إلى مزيد من النزاعات.
يونغ: اسمحوا لي أن أنتقل إلى نطاق أكثر تواضعاً للحديث عن لبنان. لقد انتُخِب ميشال عون للتو رئيساً للبلاد، بعد حصوله على التأييد من خصمه، الزعيم السنّي سعيد الحريري. كيف تفسّرون هذه التطورات؟
ماجد: أولاً، أعتقد أن هناك مشكلة لايرغب لبنانيون كثر في رؤيتها، تتمثّل في تراجع النظام التوافقي اللبناني. لقد تعاقبت الأزمات، الواحدة تلو الأخرى، وكأنّ النظام وجّه رسائل كثيرة بأنه لم يعد قادراً على العمل في ظل الذهنية السائدة راهناً لدى النخب السياسية. بُني هذا النظام لنخب غير متشدّدة. كان هؤلاء وجهاء قبل مرحلة الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975، وكانوا يتألفون من محامين ورجال أعمال ومصرفيين ومالكي أراضٍ وما شابه، حين كانت ثقافة التسوية والتوافق تتيح تجنّب المواجهة.
بيد أن خصائص هذه النخبة تغيّرت بعد الحرب. كما أن النظام القديم لم يتضمن هيمنة قوية للاعبين سياسيين داخل كل طائفة. قبل الحرب، كانت هناك تحالفات تجمع في صفوفها المسيحيين والسنّة والشيعة والدروز في مواجهة تحالفات أخرى تضم خليطاً مماثلاً من الطوائف والمذاهب. لكن الانتقال نحو احتكار التمثيل داخل كل طائفة أفضى إلى سلسلة من الأزمات السياسية، لأنه ظهرت فجأة تحالفات تغيب عنها هذه الطائفة أو تلك – وهذا ماشهدناه في فريقَي 8 و14 آذار/مارس. فقد غاب المكوِّن السنّي الأساسي عن الفريق الأول، في حين غاب المكوِّن الشيعي الأساسي عن الفريق الثاني.
انعكس انحدار التوافقية أيضاً في الأزمات المتكررة التي تعترض عملية انتخاب رئيس للجمهورية. ففي كل الدورات الانتخابية الرئاسية منذ العام 1988، اصطدمت الانتخابات بعراقيل معيّنة. قد تستمر الأمور على هذا المنوال بعد انتهاء ولاية عون، لأن المنظومة نفسها تعاني من خلل ما، ولأن ترتيبات تقاسم السلطة بين المسيحيين والمسلمين التي أُدرِجت في الدستور، أو على الأقل في الميثاق الوطني للعام 1943، بدأت بالاضمحلال مع حلول الخصومة السنّية-الشيعية مكانها، ما أحدث تغييراً في طبيعة العقد السياسي اللبناني.
قبل انتخاب عون، كان واضحاً أن حزب الله لايريد رئيساً للبلاد. فقد أتاح له الفراغ الرئاسي فرض سياسته الخارجية من دون وجود رئيس للجمهورية قادر على طرح الأسئلة – أو مضطر إلى الدفاع عن سياسات الحزب أمام الأميركيين والسعوديين والفرنسيين وسواهم. أما الآن فربما دفعت الأوضاع الاقتصادية والمالية السيئة والتهديدات الكثيرة المحدقة باستقرار لبنان الداخلي، بالحزب إلى القبول بحليفه عون الذي يمحضه ثقته بطريقة ما. وهكذا، يبدو أن ثمة ترتيباً لتجنّب حدوث مزيد من الانحدار أو حتى انهيار الدولة. لكنني لا أعتقد أنه سيكون هناك تغيير جذري في الأوضاع لأن النخبة السياسية لاتزال هي نفسها، ولاتزال متحالفة مع الأطراف الخارجية نفسها.
يونغ: فسّر البعض انتخاب عون بأنه انتصار للمرشح المدعوم من إيران على المرشح المدعوم من سورية، أي النائب سليمان فرنجية. هل تعتقدون أنه كانت هناك خلافات بين سورية وإيران حول الانتخابات الرئاسية؟
ماجد: لطالما اعتبرت أن هناك اختلافاً في المقاربات بين سورية وإيران في لبنان، حتى لو كانت سورية اللاعب المباشر على الساحة اللبنانية طوال عقود كثيرة. لكن بعد العام 2005، عندما أُرغِم النظام السوري على الانسحاب من البلاد، لم يعد هذا النظام يحظى بدعم مهم في لبنان. حلفاء سورية هم أفراد داخل طوائف، وذلك خلافاً لعلاقة إيران مع الطائفة الشيعية. بهذا المعنى، الإيرانيون أقوى من السوريين في لبنان، من خلال حزب الله. وإذا كانوا قد ارتأوا الآن أنه من الأفضل أن يصبح للبنان رئيس للجمهورية، فهذا دليل على أنهم لم يأخذوا في الاعتبار خيارات النظام السوري الأولى بالنسبة إلى الرئاسة، أو رغبته في عدم السماح بتشكيل حكومة جديدة. إذن نعم، ربما انتصرت إيران من هذه الناحية.
يونغ: ختاماً، لنتحدث قليلاً عنكم. بصفتكم شيعياً لبنانياً معارضاً لحزب الله، أيّ مستقبل لأمثالكم في بلد حيث الحزب لاعب مسيطر إلى هذه الدرجة؟ هل المنفى هو الخيار الوحيد؟
ماجد: أولاً، اسمحوا لي أن أوضح أنني لم أعرّف عن نفسي يوماً بأنني شيعي. حتى عندما كنت ناشطاً في صفوف فريق 14 آذار/مارس، لغاية العام 2007، فضّلت دائماً ألا يتم التعريف عنّي بأنني من “شيعة 14 آذار/مارس”. والسبب ليس فقط أنني علماني وأنني أنتمي سياسياً إلى اليسار، بل أيضاً لأنني لاأحب تصنيف “الشيعة الصالحين” في مقابل “الشيعة الطالحين” بحسب النظرة الطائفية لمعظم الأفرقاء. هذه الأنواع من الأفخاخ لاتفيد بشيء. هناك حكماً مشكلة داخل الطائفة الشيعية، أكثر من أي طائفة أخرى راهناً، في مايتعلق بالتنوع. قبل صعود حزب الله، كان المجتمع الشيعي من الأكثر ديناميكية في البلاد: كان الشيعة يعيشون في الأرياف ثم انتقلوا إلى المدن؛ وازدادوا علماً وثقافة؛ وكان مجتمعهم متنوّعاً؛ كان بعضهم محافظين دينياً، وكان كثر منهم ينتمون إلى اليسار السياسي، فيما كان آخرون يتبعون الزعامات التقليدية. كانت تجربتهم السياسية والثقافية غنية وواعدة.
ثم بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، وبعد ترسيخ التحالف الإقليمي الإيراني-السوري، ظهر حزب الله، وجلب معه مؤسسات وأيديولوجيا واضحة. يملك الحزب مدارس، وهناك جيل جديد تتم تنشئته في هذه المؤسسات التي تختلف مشاريعها وأفكارها عما هو مألوف بالنسبة إلينا. يملك الحزب شبكات للأعمال الخيرية، وجمعيات شبابية، ومستشفيات، ووسائل إعلامية، ويدير مجالس بلدية، وينظّم رحلات إلى إيران. ولديه جيش. علاوةً على ذلك، إنه حزب ذو مشروعية شعبيّة بنظر معظم الشيعة اللبنانيين. أظن أنه في هذه المرحلة التي تشهد تعبئة طائفية وفئوية في كل مكان، وتفاقم التعصّب المذهبي والتقدّم الإيراني في المنطقة، سيجد معارِضو مشروع حزب الله في لبنان من وجهة نظر علمانية أو تقدّمية أو غير مذهبية، صعوبة كبيرة في فرض أنفسهم وفي أن يكون لهم وجود سياسي.
يونغ: سؤال أخير، هل أنتم في صدد تأليف كتاب جديد؟
ماجد: أعمل على تحديث الكتاب الذي وضعته عن سورية، وآمل بأن يُنشَر قريباً بالإنكليزية. وأُعيد أيضاً صياغة أطروحة الدكتوراه التي كتبتها عن لبنان، وستُصدر قريباً بالإنكليزية أيضاً.
*أُجريت تعديلات طفيفة على هذه المقابلة بناءً على رغبة الأستاذ زياد ماجد.