حول بعض دلالات الظاهرة السلفيّة/ حسن شامي
من المعلوم ربما، أن الظاهرة السلفية باتت تحتل حيزاً كبيراً في المناظرة الدائرة منذ قرنين تقريباً حول العلاقة بين الإسلام وكل مقولات الأزمنة الحديثة، كالمجتمع والدولة والثقافة والديموقراطية وأنظمة الحكم. وبات من الصعب إجراء أي مقاربة لقضايا الإسلام المعاصر من دون التطرق إلى الظاهرة السلفية. ويكاد هذا يكفي للتدليل على قوة التصاق الظاهرة السلفية بالمشهد الإسلامي في طول العالم وعرضه.
وهذا الالتصاق هو ما يجيز، خصوصاً لدى قطاعات عريضة في بلدان الغرب، خلط الأمور وصعود النزعة الجوهرانية والثقافوية التي تعتبر أن الإرهاب الإسلاموي ومشتقات السلفيات الجهادية العنيفة من تبعات هوية أصلية عنيدة عصية على تحولات الاجتماع والتاريخ.
انتشار هذه النزعة الجوهرانية لم يعد يقتصر على حلقات الدعاة والناشطين ضد الحضور الإسلامي في مجتمعات الغرب المتخبطة في قضايا يستسهل الربط بينها، كالهجرة والأزمة الاقتصادية والبطالة وتآكل الهوية الوطنية، وهي قضايا يتم التعبير عنها واقتراح حلول لها في طريقة استنسابية وتعسّفية. وإذا كانت النزعة التي نتحدث عنها تتخذ في بلدان الغرب صفة «الإسلاموفوبيا»، أي رهاب الإسلام، فإنها لا تعدم التعبير عن نفسها في صور أخرى في أوساط النخب الحديثة في المجتمعات ذات الهوية العربية والإسلامية العريضة.
وقد أتاح الربيع العربي وتفلّت بيئات اجتماعية سحيقة، ومسحوقة معاً، من سطوة سلطات فئوية واستئثارية تتلفح بأيديولوجيا التحديث، وهي غير الحداثة، خروج تنويعات شتى ومتنافسة من الإسلام السياسي، من بينها تنويعات السلفية وتوزعها على حركات دعوية وإرشادية وحركات جهادية عنيفة تسعى «هنا والآن» إلى فرض حاكميتها المنسوبة إلى الشريعة الإلهية. غير أنه من الصعب رسم حدود قاطعة بين ما يعتقد أنه صعود قوى موجودة ومكتومة في مجتمع مضطرب ومخنوق وبين ما توالد بفعل الحراك نفسه وجموح فئات إلى مواجهة القمع السلطوي عبر قطيعة مطلقة تمنع من حصول فرص لتسوية مهما كان شكلها ومضمونها. ما يجمع بين هذه الحركات والاتجاهات، استنادها إلى تصوّر معين عن السيطرة والغلبة. وهذا التصور وثيق الصلة بفكرة «الفتوة» الموروثة عن الطوائف الحرفية والطرق الصوفية وثقافة الفروسية والإحيائية البطولية ذات الطابع الرسالي الخلاصي.
ولا ينبغي لهذا الوجه العريق أن يحجب ما يفرق بين اتجاهات السلفية، إذ يلجأ بعضها إلى نوع من «الفتوة» التربوية والدعوية فيما يصر البعض الآخر على استخدام القوة والعنف والتكفير بطريقة استعراضية من أجل السيطرة وإسباغ صفة الشرعية المقدسة والمطلقة على هذه السيطرة.
لقد ازدهرت في السنوات الأخيرة، الدراسات والمقالات التي تتناول هذه الظاهرة في منظار بحث أكاديمي أو في منظار نشاط دعوي مضاد ونقيض. وتوزعت المقاربات بين «التفهم» السوسيولوجي لشروط تشكل الظاهرة والأبلسة الجاهزة للنزعة السلفية في حد ذاتها. واستخدم أصحاب التحليل السوسيولوجي توصيفات معظمها صحيح للتمييز بين الاتجاهات المنضوية تحت راية السلفية. في هذا الإطار، تم توصيف بعضها بالسلفية العامية وبعضها الآخر بالسلفية الإصلاحية أو الإرشادية الدعوية أو الجهادية أو التكفيرية. وما يقود هذه التمييزات، حدس معرفي يتنبه إلى أن وحدة الشعار السلفي تحجب في الواقع درجة كبيرة من التذرر والتشظي، وذلك لاعتبارات مختلفة يتداخل فيها المحلي والجهوي مع البعد القومي وأحياناً العرقي والإقليمي.
غير أن السؤال عما هي السلفية يظل مطلوباً إن لم يكن ملحاً. فالظاهرة السلفية تتوالد وتفصح عن نفسها داخل شرنقة من الاعتبارات والدوافع والمقدمات. الإحاطة بهذه الشرنقة تستدعي على الدوام إلقاء الضوء على الخلفية التاريخية، وعلى الأرضية السوسيولوجية والثقافية لتشكل الظاهرة وتعاظمها بهذا المقدار أو ذاك. فالاعتقاد الشائع، وشبه الثابت في العديد من المقاربات البحثية، بأن السلفية هي تعبير عن التمسك بسنّة السلف الصالح، لا يقول شيئاً كبيراً ولا يكفي، بسبب عموميته، لفهم الظاهرة والحدود الفاصلة بين تنويعاتها واتجاهاتها. ويدخل في هذا الإطار، لجوء البعض إلى الربط التاريخي بين السلفية وتعبيراتها في أيامنا وبين الدعوة الإصلاحية الإسلامية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في ما يعرف بعصر النهضة. ويستدل هذا البعض على القرابة المفترضة بين الحركتين بالتوقف عند دعوة المصلحين الإسلاميين، وفي مقدمهم الشيخ محمد عبده وأستاذه جمال الدين الأفغاني، إلى العودة إلى ينابيع الإسلام الأولى والاقتداء بالسلف قبل وقوع الخلاف والانقسامات المعروفة. غير أن التمعّن في تصورات المصلحين المذكورين، أي عبده والأفغاني وعدد من مريديهما أو المتأثرين بدعوتهما، يكشف فوارق كبيرة بين مفهومهم للينابيع الأولى والسلف الصالح، وبين التصور العقائدي للعديد من السلفيات الراهنة التي قد يرقى بعضها إلى اتجاهات إسلامية محافظة ومتشددة خرجت عن مؤسسات الإسلام التقليدي والتدين الشعبي المشبع بطقوس الطرق الصوفية وممارساتها.
من خلال العودة إلى نقاء الإسلام الأول والاقتداء بسلف الأمة، هدف المصلحان المذكوران إلى إحداث فراغ حول المصدر الأساسي للكيانية الإسلامية، وهو القرآن الكريم وضرورة تدبّر معانيه وتفسيره وفق الحاجة الملحة الى المواءمة بين متطلبات العصر الحديث وربطها بمبادئ الأخلاق الإسلامية وبين الحفاظ على الشخصية الإسلامية وتجذّرها في تاريخ عريق. فلنقل إن المصلحين لم ينشغلا بمعرفة من هم الأسلاف الذين ينبغي اتباعهم بل انشغلا بتقديم تعريف لماهية السلف.
في هذا المعنى، فكرة الاقتداء بالسلف تبدو في عرف الإصلاحيين ضرباً من التعلم المنهجي وليس تعلقاً عقائدياً يستدعي التطبيق الحرفي لتعليمات تتحكم بكل شيء، بما في ذلك أشكال السلوك والحياة اليومية. بل حتى أفصح المصلحان في العديد من النصوص والمناسبات الحوارية أو السجالية عن اعتقادهما أن تعاليم السابقين هي نهاية المطاف آراء اجتهد أصحابها في صوغها، وهي لذلك جديرة بالاحترام والتقدير. لكنها تبقى آراء يسترشد بها ولا داعي لجعلها مرجعية نهائية لحياة المسلمين في العصر الحديث.
الفراغ الذي سعى المصلحان إلى إحداثه يسمح في نظرهما باستقبال الأفكار والمؤسسات الحديثة التي يستحيل على المسلمين العيش خارجها بطريقة لائقة وكريمة. واقتضى ذلك تقديم تصوّر ذي طابع تعليمي عن الهوة الكبيرة التي تفصل بين إسلام أصلي حيوي ومنفتح وبين مسلمين غارقين في التقليد والجهل والخرافات. الفارق كبير بين الإصلاح والسلفية الحالية.
الحياة