حين افتقد عمر عامر
إبراهيم توتونجي
نصفه الروحي. نصفه الفكري. وشوارع المدينة تخطف الأنصاف. وأشباح المدينة يشقّون الخبز والكتب والتوائم. وقناصة المدينة يتفننون في الهدم وايقاف المد وقتل الند. وهو، مدّه وندّه وتوأمه ونصفه. وهو يفتقده في هذا المساء، ويغيّر صورته على «الفيس بوك» ويضع صورة صديقه مكانها. وصديقه، المعتقل حتى كتابة هذه السطور، كان بدوره قد بدّل اسمه قبل أيام وصورة «بروفايله» ووضع صورة ضحى. وضحى معتقلة.
وكانت قبلها، ربما، قد بدلت أيضا صورتها بصورة صديق معتقل أو صديقة معتقلة. هكذا، حمل الشباب صور أصدقائهم المعتقلين وجالوا بها في شوارع افتراضية، شوارع الـ«نت». يغيرون اسماءهم، يتماثلون مع المعتقلين، يتوحدون معهم، ليلفتوا الأنظار، فتدمع عيون وتلمع أخرى حزنا وثورة.
وفي مكان ما مظلم وبارد، عفن تخنقه الرطوبة والضغينة، تبرق عيون وهي تجمع الأسماء وتترصد الصور وتحلل التعليقات وتكتب التقارير بخبث ودهاء. بخبث وغباء.يجول الأصدقاء بصور اصدقائهم لأن الـ«فيس بوك» هو كتاب الوجوه، والوجوه دليل القلوب، والقلوب تنضح بالحرية، والحرية على مرمى حجر، والحجر حمله عامر ولم يرمه على أحد، فصيحته كانت سلمية، وسالت دماء ولفظ مغدورون الشهادة في ساحة الجامع.. وظلت سلمية.
واختفى أطفال وكسرت أقلام كبار، وبحت حناجر المأجورين الخائفين..
وظلت صيحته سلمية. وغنى سميح شقير «يا حيف.. يا حيف» مرثية للوطن الجريح، وظلت صحية عامر سلمية.. ورغم ذلك كله، خطف، من الشارع، الحقيقي لا الافتراضي، فافتقده عند المساء صديقه الحزين عمر، وكتب عند الثالثة الا دقيقتين بعد منتصف الليل:
«اليوم مشيت من دونك في شوارع المدينة، كان صوتك يستوقفني، صراخك انفعالك جنونك، كم اختلفنا على لون عيون الحبيبة وكم اتفقنا على الحب يا أخي الذي لم تلده أمي، مشيت نصفاً دونك.
كم سألني عنك صوتي ورأسي، لم أعتد أن تغيب يومين كاملين، ولم أعتد أن أناقش نفسي في غيابك. تعال أحتاج أن نقرأ بعض الشعر سويةً، وأن نسمع أغنية عن الفرات.
تعال أحتاج أن نشتري جريدة لننبش أخطاءها، أنتظرك يا مطر أنتظرك أيها القلب الصافي النبيل، ألن نخرج سويةً إلى المخيمات يوم السبت؟».
ومر الخميس ومر الجمعة ولم يظهر عامر، وظل محجوزا في المكان الرطب العفن الذي يعج بالخبث والجهل والدهاء، وكتب عمر مجددا عند الساعة الثانية والدقيقة الخمسين بعد منتصف الليل: «هذا المساء مر، ولم نتحدث على الهاتف، ولم نلتق ولو لقاء عابر، لم نختلف اليوم على التفاصيل، هل سننام دون أن نختلف؟ أنا لن أنام يا أخاً لم تلده أمي، ألا تريد أن نختم كلامنا متفقين اليوم.
أؤكد لك: «نحن متفقان، لكن عدّل بعض الفواصل في الفقرة الأخيرة»، أما انا فأعشق تقديم الاسم على الفعل، كالعادة. لا تقلق سنكتبها معاً تلك الكلمة التي فجّرت غيظ القلوب، يا صديقي، يا أخاً لم تلده أمي، أنا بانتظارك..».
وحتى يعود عامر لعمر، وحتى تعود فاصلة الى جملة واسم الى فعل وتوأم الى نصفه، لا يبقى للشباب العربي الحر الا لعبة تبديل الصور.. وانتظار الأشباح. سلمت عمر.
http://www.albayan.ae/five-senses/sixth-sense/2011-04-04-1.1414254