حين يصير الموت حلماً
سعاد يوسف
هازئاً، مبتسماً، كان يطلب من كل من يصادفه في طريقه “أخذ مقاساته”، ليحفر له قبراً يناسبه!!
عادل، حفار القبور في إحدى قرى ريف دمشق، بات وجهاً معروفاً لدى سكان المنطقة. لا أحد يتجنبه، بل الكل يمازحه متسائلاً متى يأتي دوره حتى يقوم عادل “بإنزاله” في المكان المخصص له تحت الأرض.
في طريقنا إلى مقبرة الشهداء حدثني عادل عن حياته قبل الثورة. وقد كان عاملاً في البناء، يساعد والده في حفر بعض القبور في تربة قريته. ومع اندلاع الثورة أخذ بالخروج للمشاركة بالمظاهرات أسوةً بأبناء قريته لأنه أراد “حياةً أفضل”، إلى أن تحولت إلى العمل المسلح، فوجد نفسه وقد انضم إلى إحدى المجموعات المقاتلة، إلا أن كثافة الموت الذي صار حاضراً بشكل يومي هناك، دفعت بعادل إلى التفرغ لحفر القبور ودفن الموتى، في عمل يساعده فيه ثلاثة أشخاص آخرين.
“ليس من السهل أن نجد أحداً يقوم بهذا العمل، جاء الكثيرون لمساعدتنا إلا أنهم يمكثون بضع ساعات ليهربوا من بعدها. أقوم بحفر القبور و(صب البلاط)، كما أساعد الآخرين في إنزال الشهيد إلى القبر، عملنا صعب وشاق ويتطلب قوة جسدية ونفسية”، ويكمل متبحراً في ذاكرته “أذكر عندما بدأت بمساعدة أبي في حفر القبور، كان لي من العمر حينذاك تسع سنوات، كنت أهرب كل يوم من تلك المهمة حيث كان أبي يجبرني على تجميع العظام ووضعها إلى جانب القبر فيما يقوم بالحفر وإنزال الميت. إلا أنني مع الوقت اعتدت الأمر ليغدو مسألةً روتينية، أما الآن فأنا أقوم بدفن الشهداء وأعود فوراً لمتابعة عملي دون أن أفكر حتى في من دفنتهم. دفنت جدتي وابن عمي وأبي أيضاً دون أي إحساس بالحزن. فالأموات يتعذبون في قبورهم إن حزنّا أو بكينا عليهم”.
وصلنا المقبرة. أرض خضراء نبتت فيها بضع زهور هنا وهناك. سيارات مدمرة أو محروقة تذكرنا بمشهد الحرب اليومية التي نعيشها. اقتربنا شيئاً فشيئا لنرى صفين من القبور المتلاصقة، لكل منها شاهدة رخامية ذات شكل عشوائي وقد كتب عليها “الشهيد/ة بإذن الله فلان بن فلان”. أعلام الثورة تزين بعض القبور والورود تغطي معظمها. وإلى جانبها حفر فارغة مستعدة لاستقبال شهداء جدد.
تابع عادل يقول: “في ما مضى كنا نحفر كل شهر قبرين أو ثلاثة عندما يموت أحدهم. واليوم، نحفر قبوراً للاحتياط فقريتنا تودع كل يوم عددا من الشهداء.”
سألته:”وهل حقاً تأخذ مقاسات أبناء قريتك لتحفر لهم قبورهم؟”
“لا. أحب فقط أن أخيفهم، الموضوع لا يتعدى الدعابة، كل القبور لها الحجم عينه، إلا أنني أقول لهم ذلك كي أذكرهم بأن نهايتهم جميعاً، كبيرهم وصغيرهم، هي إلى التراب. حتى بشار الأسد والذي يظن أنه يخيفنا بطائراته ومدفعيته، نهايته ستكون كنهاية هؤلاء الذين ترينهم يرقدون أمامك. نحن لم نعد نخاف شيئاً. نعيش ونعمل تحت القصف، وحين سأموت سأرقد إلى جانب أهلي وأصدقائي، وقد جهزت منذ اليوم مكاناً مخصصاً لي هنا في المقبرة.”
أما أحلام عادل لم تعد لتتجاوز المكان، “لا أتمنى سوى الشهادة. فهل من شيء آخر لنحلم به اليوم؟ بعد أن تنتهي الثورة سأعود لأعمل في البناء وقد أفكر في الزواج وإنجاب الأطفال (إذا ضلينا عايشين). أما الآن لا أفكر مطلقاً في المستقبل فاليوم نعيش فقط كي نموت”، لم يكن لعادل حلمُ بعملٍ آخر حيث قال لي مودعاً، “أحب عملي ولا أتمنى غيره”.. “هل هناك أجمل من الموت؟”.
المدن