صفحات الثقافةعلا شيب الدين

حيوية الثائر وصنمية المثالي

    علا شيب الدين*

“إلى جيل يمشي الحيط الحيط، ويقول يا ربي السترة/ نحن جيل هدّينا الحيط، ورح نعمل الأسد عِبْرة” (أحرار بنّش)

بنّش، بلدة في ريف محافظة إدلب، والكلام الموقَّع باسم أحرارها، جاء في لافتة حملها شاب خلال إحدى تظاهراتها. في حين يميل البعض إلى التذكير بثورات قادها رجالات فكر وسياسة، عُمِّدَت بآراء فلاسفة كبار، يجيد البعض الآخر الانعتاق من النوستاليجا تلك، والانتماء “من دون تفكير” إلى أولئك الثائرين، المفكرين على طريقتهم، في بلادنا. فاللافتة نفسها تبدو بمثابة ثورة فكرية، يكتبها هذه المرة مفكرون، أدواتهم الروح والدم، فضاءاتهم الشوارع والساحات والأزقة، السهول والجبال والوديان، القرى والمدن. ثورة تبدو كأنها تعصف بالذهنية التقليدية وتصوراتها، تحطّم أصنام الخوف والمألوف، تنسف هواجس الستر والسترة، والركون إلى عكاكيز السلطة، والاتكاء على جدران العزلة والكبت. ثورة ما انفكّ جيلٌ شاب يرمي فيها الحطبة تلو الأخرى منذ أكثر من عامين، لتبقى مشتعلة لائقة بروح متوفزة، ولائقة كذلك بعقل شاب متوهّج ببنات الأفكار وصبيانها، يضرم ثقافةً لها فاعلية النور والتنوير، قد لا تبتعد في مغزاها ومعناها عن الشعار الذي اجتاح أوروبا في عصر التنوير: “لتكن لديكَ الشجاعة لتستخدم عقلك”. أما شعار التنوير الخاص بالربيع السوري، فيبدو كأنه الآتي: تشجَّع واعرف بنفسك ولنفسك، وأَعْمِل الثورة في كل مناحي الحياة، وفي كلّ موضوع يُطرَح. إنها ثقافة شابة، من شأنها إحياء حق الفرد وتمكينه من البحث عن سعادته، ولا يعني ذلك أكثر من أن يمارس حقه في أن يشقّ طريقه في الحياة من دون تكبيله بإرادة متسلِّطة.

 أنْ يُهدَم “الحيط”، وتندلع الثورة على حاكم مستبدّ مجرم، ويُجْعَل منه عِبْرة لكلّ ظالم، لَهُو انقلاب جذري أصيل في مفهوم “الحاكم”! فمنذ انطلاقة العام 2011، بدت شعوب “الربيع العربي” كأنها قد حفرت على جذر المفهوم المتأصّل في الذهن عن الحاكم. إذ لم يحدث في تاريخ العرب والمسلمين أن خرج الناس على الحاكم، حتى لو كان ظالماً جائراً، لا بل في كل عصر، كان هناك الحرصاء على صوغ القواعد التي تضمن مصالح “النخبة” المسيطِرة، وكان الحاكم دوماً بمثابة إله أو نصف إله، له حاشيته، ومثقفوه، ومفكروه، ومنافقوه، وفقهاؤه المتمسِّكون بقاعدة عدم جواز الخروج عليه مهما يكن ظالماً. إلا أن الشعوب الثائرة، أصبحت اليوم تفكِّر في الحاكم كموظف لديها. إنْ لم يحكمهم باختيارهم الحر، وإنْ لم تكن سياسته ناجعة في توفير عيشٍ حرّ كريم، وإنْ ارتكب جُرماً، فإن الثورة عليه وإطاحته، ثم محاكمته، حق قانوني لا تشوبه شائبة. تبدو الشعوب ذاتها كأنها أدركت أن لا مصلحة لها بالسمات “الشخصية والأخلاقية” للحاكم، السمات التي طالما سُيِّست من أجل استمالة عاطفة الناس وجَعْل الحقوق مكرمات وهبات من الحاكم “الطيب، المحبوب، العطوف الرؤوف”. ما عاد إقحام الأخلاق والعاطفة في السياسة كشأن عام، وارداً بالنسبة إلى مَن ثار، ووحده القانون يجب أن يسود على الحاكم والمحكوم في آن واحد. ما عاد القبول بـ”المستبد العادل” مهضوماً ومستساغاً، إذ ما من استبداد عادل، فالعدالة ليست منحة الحاكم، بل حق.

الثورة السورية، شأنها شأن كل الثورات الشعبية، من حيث هي عُرضة للاختطاف، والتسلّق، والركوب، بيد أنه ينبغي للصوص الثورة من كل شكل ولون، استيعاب الدرس، كون الجيل الذي أشعل الثورة “هدّ الحيط”. فما دام المستبد الأخطر والموغِل في القدم، قد تمت مقارعته بشجاعة منقطعة النظير، ما بالك بمستبد حديث العهد أمام شعب خاض تجربة تحرُّر مذهلة؟!.

كتبَ أحدهم مرة على صفحات “فايسبوك”: “الانتهازيون يعرفون من أين تؤكَل الكتف، لكن الثوار يعرفون كيف تُقطَع اليد من الكتف”. بصرف النظر عن قطع الأيادي، نحن نتبنّى الثقة بقدرة الثائر الحقيقي الحيوي، على كشف الخسّة والمؤامرة المتربصة بثورته، ونبارك كل ما من شأنه تسلّم “الجيل الذي هدّ الحيط” زمام أموره سياسياً. إن الثقة بالثائر هنا، تتجلّى عن تفكّر في ثورات العالم العربي، كثورات تنضج مع الزمن، والمأمول منها يحتاج إلى سنوات حتى يتجسّد، وربما عقود.

¶¶¶

تستمد الواقعية مشروعيتها ربما من العيان القائم في الزمان والمكان، ولا شك أن المعنى الحي لمفردة “شعب”، محض سياسي. فيما الثورة الشعبية، تجلٍّ لزخم شعبيّ، عيانيّ، مشخَّص. فالفارق بين “الحرية” كمفهوم مجرّد، و”التحرّر” كفعل شاق وطريق وعرة، كبير ومهم. غير أن ثمة مَنْ لم يكابد الثورة كتجربة حية، أرضيّة، بدا كأنه مثقل بمفهوم الحرية، وجدَ ضالته في المزايدة، وفي التعاطي “المثالي” مع الشعب “الواقعي”، في محاولة بائسة لإدراك ما ليس موجوداً في العيان. جعل من نفسه “أستاذ الثورة ومربّيها الفاضل”، فرفع عصاه مشيراً إلى ضرورة شطب المفردات “الشعبوية، المحسوسة”، واعتماد مفردات لائقة بنُخَب الميتافيزيقا! ثم راح يفصفص حتى أبسط أخطاء الناس ممَّن حلَّت عليهم الفاجعات، ويترصّدها مُريداً من الثائر أن يكون “مثالاً” يتواءم و”فهمه” للثورة. صار كأنه يتقمّص شخصية بروكرست في الميثولوجيا اليونانية، قاطِع الطريق الذي كان يستضيف المسافرين ليناموا على سريره، فإن كانوا أطول منه، قطع الزيادات ليُساوي جسد الضيف مع السرير، وإن كانوا أقصر، شدَّهم حتى الموت. أوَليس هذا نهج بعض فصائل المعارضة التقليدية من مثل “هيئة التنسيق”؟ الهيئة التي طالما مارست دور التلقين المتعجرف، حتى أمست تعيش وهم فِعْل العلة الكاملة في المعلول الناقص، مع أنه حتى “اللاءات الثلاث” التي راحت تنظّر بها على الناس، هي معلولة للشعب السوري الثائر، فالشعب ذاته كان العلة الأصيلة لـ:”لا للطائفية، لا للتدخل الخارجي، لا للعنف”، وما التخلّي جزئياً في ما بعد عن الـ”لا” الخاصة بالعنف، إلا نتيجة طبيعية وواقعية ومنطقية لقمع العصابة الحاكمة وإرهابها. في السياق ذاته، يندرج خطاب من مثل: “سوريا فوق الجميع”، الذي يصرّ على “الفوْق” كأن قدَر السوري أن يبقى محكوماً بـ”الفوْق” الذي أخذ شكل “البوط العسكري” طوال عقود! يصعب ربما على متبنّي هذا الخطاب تفهّم الحاجة الملحّة إلى “سوريا للجميع”.

يبدو المثاليّ كأنه يريد ثورة “خالصة” ذات منهج يبدأ في “بناء الدولة” مباشرة، قبل الانتهاء من مرحلة هدم النظام القديم! لكن ألا يقتضي المنهج كمراحل، عدم حرق المراحل؟ أكدت التجربة أن إسقاط النظام لا بد أن يصاحبه غبار وأعاصير وشتى أنواع الغضب. فمَنْ قال إن الوقور دائماً، المشذَّب المعلّب، هو ابن الثورة والحياة والطبيعة البشرية؟! قد يقول قائل: لا ينبغي تقديس الثورة. بديهي أن الثورة ليست مقدَّسة، وأن لها أخطاؤها التي ينبغي نقدها وتصويبها، وكل ما ذكرناه آنفاً يحكي عن الثورة كتجربة محض بشرية. لكن ما دامت الثورة ليست مقدَّسة، لماذا يريدها البعض كما “الملائكة”، معصومة لا يعكِّر صفوها خطأ؟! لِمَ الإصرار على تطويع الثائر لكي يشبه “نموذجاً” محدَّداً ساد الاعتقاد الواهم أنه “الأرقى”؟! هل “المطوِّع” نفسه، منزَّه عن الشوائب؟ من هنا ربما يتأتى الاعتقاد المهم في ضرورة الثورة على الذات أولاً.

ما لا ينتبه إليه ممتهن المثالية، أن هذه قد تفضي إلى الكذب والمراوغة، وادعاء الامتياز على الآخر، عبر السعي إلى “الاشتهار” بالتحضّر. كمثال يمكن أن يُضرَب ها هنا، أستحضرُ بوحاً لأحدهم أفرَجَ عنه خلف الكواليس ذات ارتياح: “أشعر بالسعادة في كل مرة يحرز فيها “الجيش السوري الحر” تقدُّماً، إلا أنني لا أعلن سعادتي، لكي لا “تحترق أوراقي”، لذا أفضِّل ترْك غيري يفعل ذلك، وأبقى مؤيِّداً السلمية بالمطلق”. مع أن المتكلِّم نفسه، شخص عادي، لكنه، قد يقترب في تصريحه، من هتلر حين صرّح ذات يوم: “ليست عندي أي رغبة في الظهور بمظهر مَن يحتقر القانون الأخلاقي أكثر مما يحتقره غيري من الرجال. ولماذا أسهّل على الناس السبيل لمهاجمتي؟ إنني أستطيع بسهولة أن أعطي سياستي لوناً من الأخلاق، وأظهِر أن سياسة خصومي سياسة منافِقة”. يبقى السؤال: هل السلمية، وفق هذا المنطق، غاية أم وسيلة؟ أخلاق أم سياسة؟. بعدما فُرِضَت العسكرة على الثائرين السلميين، بغية الدفاع عن النفس في قبالة وحشية قل نظيرها، وباتت أمراً واقعاً، أصبح المرء يشعر أن السلمية بالنسبة إلى “المثاليّ”، صارت وسيلة ومناورة سياسية، أما بالنسبة إلى الثائرين في الميدان، حتى بعدما تعسكرت الثورة، ظلوا يخرجون في تظاهرات سِلميّة، تأكيداً منهم أن السلمية بالنسبة إليهم غاية لا وسيلة، أخلاق ومبدأ لا سياسة.

أثبت التعاطي المثالي مع الثورة، قلّة جدواه في تكوين التجربة، وتبيَّن أنه يُقصي الآخر، مع أن الآخر ليس ترَفاً، بل شرط دائم لضمان وحدة الثورة وثرائها؛ لأنه يصعب فهم طرف إلا من خلال الطرف الآخر، الذي أحياناً يكون مناقِضاً وأحياناً أخرى مكمِّلاً. أما كيف يمكن فهم الآخر بالنسبة إلى المثاليّ؟ فهذا أمر يبدو محكوماً بالتخبط، كونه يريد فهمه عبر منهج المماثَلة، ويقارنه بنفسه، بحيث يتطابق و”سريره” أو “مثاله”.

* كاتبة سورية

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى