صفحات الثقافة

في محبة “الشلّة”/ أحمد ناجي

 

 

أصبحت الشلل نشاطاً سرياً لا يجوز إعلانه، لكنها ظلت تنظيماً فعالاً في الحياة الثقافية(اللوحة: حسن جوني)

أعمل في الصحافة الثقافية منذ أكثر من 12 عاماً. طوال هذه السنوات كان الخطر الأكبر الذي يتحدث عنه المثقفون والكتّاب العرب ويتهمونه بالسبب في خراب ثقافة الأمة، ومشهدها الفنى والاجتماعى وضياع حاضرها ومستقبلها، هو ذلك الشبح الذي يشير له الجميع من دون أن يوضح طبيعته، المرض الخطير الذي يصفونه بالشللية.

أجريت عشرات الحوارات مع كتّاب وفنانين من مختلف المجالات والجنسيات، يدور الحديث بمنتهى الود، أو الحماس في النقاش، وعند كل عثرة في مشوار الشخصية التي أحاور، ستلوم شبحاً غامضاً على عدم القدرة على الاختلاط بالوسط، أو ستضع قناعاً حزيناً وتقول: “ليس لي شلّة”.

هذا الموقف السلبي من “الشلّة”، بل ومن الصداقة ووسمها كشبكة من المصالح الفردية، تضم أشخاصاً هدفهم تدمير حاضر الأمة ومستقبلها ومحاربة المجتهدين، جعلني أخفي حبّي لشلّتي، بل ولشلل أصدقائي المتعددين. تعلمت أنه في إعلانك عن شلّتك، يصبح تفسير كل موقف تأخذه وكل كلمة تكتبها، نتيجة لعلاقتك بتلك الشلّة، أو لأن صديقك في أقصى طرف الشلّة لديه عداوة أو مصلحة، ذات علاقة بما تكتبه.

لكن الآن وبعد ما مررت به، عام في السجن وعطالة وبطالة غير اختيارية في بلاد الوادي الخصيب مصر، أرى أنه لا شيء افتخر به من كل ما صنعت أو أنجزت، غير شلّتي. أصدقائي الذين حملوني كثيراً، وفي الغالب لم تُعنّي طاقتي لحملهم حينما احتاجوا إليّ، بل وكثيراً ما  خذلتهم، ومع ذلك ولأن الصداقة وقواعد الشلة ليست قواعد الربح والخسارة والمنفعة والمكسب، فما زالت حبال المحبة والمودة موصولة.

تأسست الحياة الثقافية العربية الحديثة على منطق الشلّة أو الجماعة، وليس كل هذا التوثيق والتأريخ للمقاهي الثقافية من نهايات القرن التاسع عشر، سوى انعكاس لتاريخ الشلل التي كانت تجلس فيها. كانت الشلة فخورة بنفسها في ذلك الزمان، تجمع بين أفرادها ذائقة فنية وفكرية مُتقاربة، وموقف نقدي يتشكل من خلال الجلسات الطويلة والنقاشات والضحك والاحتداد.

في بدايات القرن العشرين، كانت الشلة الثقافية تتبلور لتصبح جماعة وتياراً ثقافياً وفنياً، كأن يصبحوا جماعة “الديوان” أو فرسان الحركة الرومانسية. ولم يكن أعضاء الجماعة يخجلون من التعبير عن حبهم لبعضهم البعض أو تقديرهم لجهد وعمل أفرادهم. حتى إن شلة ما، اجتمعت ذات يوم، وقررت منح صديق لهم لقب “أمير الشعراء”، فأصبح أحمد شوقي للأبد أمير الشعراء.

لكن مع بداية من الخمسينات، ومثل كل تجمع وتنظيم اجتماعي، فرضت الرقابة على الشلل، وحوصرت، حتى في الوسط الثقافي والفني. يحكي نجيب محفوظ، وهو عاشق كبير للشلل، كيف كانت جلسات شلّته تُحاصَر وتُراقَب من المخبرين، حتى إن لقاءاته ببعض شلله حيث يتواجد أشخاص منتمون سياسياً، كانت تتم في منازل وأماكن خاصة، وكان محفوظ يجازف بتلك المغامرة، وهو الموظف الكبير في دولاب الدولة، لا لشيء إلا لمتعة المجالسة والمؤانسة، لمتعة صحبة الشلة.

وُصِمت “الشلة” بأنها وسائل المنتفعين والمتسلقين، أصبحت الشلل نشاطاً سرياً لا يجوز الإعلان عنه. لكنها ظلت تنظيماً فعالاً في الحياة الثقافية. يتكئ الفنانون والكتّاب الشباب على بعضهم البعض في شلة تربطها مواقف فنية أو نقدية متقاربة، ليعلنوا عن أنفسهم في مواجهة سلطة جيل أخير.

حدث الأمر مع شعراء قصيدة النثر من جيل السبعينات، الذين وقفوا كشلّة في مواجهة شعراء قصيدة التفعيلة، وتكررت المسألة مع شلة جيل التسعينات.

لم تأخذ “الشلة”، كظاهرة اجتماعية، حيزاً من الدراسة الاجتماعية أو حتى في مجال كتابات التأريخ الثقافي. وُصِمت بكل الصفات السلبية، من دون النظر إلى الدور الذي تلعبه في المجال الثقافي على المستوى الفردي والجماعي.

أنظر بريبة إلى كل شاب وشابة أقابله، ويتعمد في منتصف الحوار أن يرمي جملة سخيفة من نوعية “أصل أنا مليش في شلل وسط البلد”.. ففي ماذا لك إذن؟ كيف تختبر قناعتك وأفكارك وكيف تطورها؟ كيف تتعرف على ما يحدث في المجال الفني أو البحثي الذي تعمل فيه، إذا لم تكن لديك شلة أو جماعة؟ بل وأين تجد الصديق الذي يقدّر انشغالاتك وشغفك الفني وأسئلتك الخاصة إذا لم تكن لديك شلة؟

في بلدنا الفقير البائس لم أتعلم أى شيء جدير بالذكر في كل المؤسسات التعليمية التي مررت فيها، لكني أدين بما أعرفه وبتطور أدواتي المهنية والمعرفية لكل هؤلاء الأصدقاء الذين استمر وجودهم والذين عبروا سريعاً. هؤلاء هم من زرعوا الشك في أوهام اليقين، من قرأوا ما تكتبه بحب واهتمام ومع ذلك علقوا بقسوة وعنف.

نقضي حياتنا في الهروب من سجن العائلة، في قتل الأب والتحرر من سطوة حنان ورعاية الأم. نفقد إيماننا بالايديولوجيا سريعاً في منتصف الشباب. لكن تبقى الصداقة والشلة هي ما نختاره بإرادتنا الحرة، هي الشكل الاجتماعي الذي نشكله ويشكلنا.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى