صفحات الثقافة

خارج السياق/ ابتسام تريسي

صمت المكتب يضج في أذنيّ.. وشيشٌ يتضخم.. يملأ رأسي.. يشدّ أعصابي.. يرعش يديّ.. ويسقط الملف.. ملف أسعد!

ما زلت مرتبطة بقيد من الأرقام إلى ملفاتي.. أسجّل رقم الملف لأحصي العدد الذي يتساقط بين يديّ كلَّ يوم.

الأرقام تخيفني، هي نفسها كانت السبب في اختياري الفرع الأدبي حين صرت في مفترق طرق في الثاني عشر الثانوي. وهي نفسها التي أنقصت علاماتي في الثانوية العامة حين كنت أفقد البوصلة في حفظ الأعوام التي حدثت فيها الثورات والانقلابات والمعارك في العالم العربي.. تلك الأرقام كانت الوحيدة في التفاصيل الصغيرة للحدث التاريخي التي تربكني فأخلط بينها. في الأدب كان الأصعب بالنسبة لي أن أعرف تاريخ وفاة شاعر أو ميلاده أو سنة حصوله على تكريم أو جائزة! كانت الحكاية فقط ما يحرّك مخيلتي، وما يدفعني لسردها في أسلوب يخصّني لكنّه يحافظ على حقيقة ما حدث.

الحقيقة! لم أعرف أنّها ليست موجودة، وأنّها نسبية تماماً كأيّ عاطفة مذبذبة قد تصعد قمة وتنزل هاوية بحسب حضور المخيلة.

سر غامض!

( فلما كان وقت العشاء جاء الإذن من الخليفة المقتدر أن تضرب رقبته. فقال الحرس: قد أمسينا، نؤخر إلى الغد. فلما كان الغد، أنزل من الجذع وقَدَمٌ تضرب عنقه، فقال بأعلى صوته: حسب الواحد إفراد الواحد له. ثم قرأ ‘يستعجل الذين لا يؤمنون والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون الحق’… ثمّ ضربت عنقه، ولف في بارية، و صب عليه النفط ، وأُحرق، وحمل رماده على رأس منارة لتنسفه الريح!).

هل كان الحلاج زنديقاً حقّاً أم صاحب فلسفة خاصة لم يستطع أصحاب العقول الصغيرة فهمها فأعدموه؟ هذا ما سألتُ والدي عنه وهو يعدّ بحثاً في التصوف الإسلامي.. فقال: أعدموه لأنّه كان حرّاً، لكنّهم لم يستطيعوا إخراس صوته، فما زال أثره باقٍ حتّى اليوم.

الحلّاج على الصليب.. صديقه وتلميذه الشبلي يقول له: ‘أولم نَنْهَك عن العالمين’؟

****

نظرت إلى الملفات المرتبة في المكتبة.. لم يكن الملف البني يحمل الرقم ’1′ لكنّه كان الأشدّ حضوراً في قلبي. ملف غياث مطر!

صورة الحلاج على الصليب لم تكن بتلك البشاعة التي رأيتها حين رموا جثة غياث مطر على باب دار أهله، وقالوا لهم ‘اصنعوا منه شاورما’. غياث كان عارٍ من أعضائه الداخلية، انتزعوا كلّ ما في جسده، استخدموا كلّ الهمجية التي ابتكرتها مخيلاتهم المريضة في تعذيبه.. وحين لم يبق فيه ما يشفي غليلهم، رموه لأهله لينتشوا بقتلهم كمداً وحزناً.

صورة غياث بابتسامته الساحرة يحمل الورد، يقدّمه للجنود.. يحمل الماء ليسقي الجنود.. الجنود يمطرون المتظاهرين العزل _إلاّ من الورد_ بالرصاص.

الحلاج يقول للشبلي ‘الذين نحبهم لا نغفر لهم ولو رمونا بوردة!’

أعداء الحريّة يكرهون الورد، وأصحابه!

أقيم لغياث عزاء حضره سفراء كلٌّ من الولايات المتحدة وفرنسا واليابان وألمانيا والدانمارك. وبعد مغادرة السفراء قامت قوات الأمن باقتحام مجلس العزاء.. وأطلقت العيارات النارية والقنابل المسيلة للدموع لفض المجلس!

أم الشهيد غياث مطر قالت: ‘بدفع عمري لأعرف سرّك يا غياث’

طريق الحريّة

لم يستطع الفرنسيون أن يحققوا حلمهم برؤية نجيب السخيطة على حبل المشنقة.. هكذا روى لنا أستاذ التاريخ من خارج الكتاب المدرسي.

الفرنسيون قبضوا على نجيب السخيطة بعد أن نصبوا له كمينا قرب أورم الجوز، وأصابوه في ساقه برصاصة فسقط عن حصانه.. جرّوه إلى أريحا، ورموه على البيدر، وداسوا ساقه المصابة بعربة الدريس! ثمّ نقلوه إلى سجن القشلة في حلب.. هناك استطاع أن يهرب بأعجوبة، وقصد تركيا.

لم يكتفوا بسحل الرجل السوري الحر في الفيديو الأكثر شهرة، لم يكتفوا بتعذيبه، كشفوا عورته بمنتهى الصفاقة وهم يضحكون، ساوموه على شرفه وعرضه كي يسمحوا له برؤية أولاده.. تمتم بقهر ‘أعوذ بالله، بنت عمي تاج راسي’.. تلقّى ضربة الرحمة بعقب البندقية على رأسه.. ومات حاملا قهره ورغبته الوحيدة في رؤية أولاده!

لا أحد في المعتقلات والسجون السورية يستطيع الهرب بجسده من قبضة الجلّاد المتوحش ..

فقط طريق السّماء مفتوحة أمام الأرواح الحرّة!

التابوت رقم….!

الملفات أمامي تحمل أرقاماً، وصوراً وحكايات.. أقسمت أن لا أقرأ ما فيها.. تلك الرسائل التي أصورها وأرسلها عبر الفيس بوك إلى زوجات المعتقلين وأمهاتهم.. والتي أحفظها داخل ملفات القضايا الخاصة بهم لأسلّمها لهم عندما يطلق سراحهم! صارت كابوساً بعد أن أصبحتُ مضطرة لفصلها إلى قسمين.. قسمٌ لمن قضوا تحت التعذيب.. وقسم لمن ينتظرون. قسم الأحياء يتقلّص.. حدّ خشيتي أن تتحوّل مكتبتي إلى تابوت!

لم أترافع عن أسعد، ولم أقف بجانبه في المحكمة، فقد حوّل بعد سنة من اعتقاله في المخابرات الجوية إلى محكمة الإرهاب.. قضى أشهراً في سجن صدنايا ثمّ حكم عليه بالسجن المؤبد، ونقل إلى سجن عدرا ليقضي مدة عقوبته.. لكنّهم جاؤوا ثانية ليأخذوا أسعد مع تسعة معتقلين آخرين.. تم إعدامه مع ثلاثة من رفاقه، وبقي مصير الآخرين مجهولاً!

لا أحد يعرف اليد الخفية التي غيّرت الحكم..

لكن.. الكلّ يعرف يد القاتل.

همس لي صديقه وهو يناولني رسالة عبر الشبك الحديدي: ‘احتفظي برسائله ريثما أخرج، أنا سأوصلها لأمّه’ ودمعت عيناه!

ملف أسعد رقم …

دوختني الأرقام.. رفعت الملف عن الأرض.. فتحته.. وقبل أن أضيف إليه رسالة صديقه، لم أستطع منع نفسي من قراءتها:

( لن تسمع الجدران يا أسعد.. فالسجن مثل جبهة السجّان!

دخل غرفتي، وسلّم عليّ بحرارة، وضمّني قائلاً ‘خليني شم فيك ريحة الحبايب’. شابٌ وسيمٌ له طلّة الشمس، وشعرٌ عسلي جميل.. وعينان تشبهان تربة جبل الزاوية.. كان يحبّ الحياة، فهو سوريٌ يا أصدقاء، ونحن نحبّ الحياة إن استطعنا إليها سبيلاً.. أو على الأقل نموت ونحن نحاول. كنّا نجلس كلّ صباح على درج البوفيه نسمع فيروز تغني ‘سنرجع يوماً إلى حينا’ كان يقول لي: ‘معقول نرجع للجبل، نقعد تحت أشجار الكرز، وما نسمع غير صوت العصافير وحفيف الريح!’

ثمّ يقول: ‘بتعرف يا حبيب، لما بتنزل قذيفة بأيّ مكان بسوريا، بحسها فوق راسي، بس لما بتنزل بالجبل بحسها نزلت بقلبي’

الملف هذه المرّة لم يحتوِ على الرسائل فقط.. كانت هناك شكلة شعر صنعها أسعد من الخرز الناعم الملوّن، كتب عليها ‘أم أسعد يا ست الحبايب’!

*****

أم الشهيد تامر الشرعي قالت:

‘كان يقول لي: أتمنّى الشهادة في فلسطين عندما أكبر… لم نكن نعلم أنّ لدينا احتلالا علينا مقاومته’!

كيف لقلبي أن يتسع لكلّ هذا الألم!

روائية من سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى