خاطرة سياسية…بمناسبة انعقاد مؤتمر أصدقاء شعب سوريا الباريسي
فلورنس غزلان
يطيب لي أن أستيقظ دون أن توقظني كوابيس ماحدث البارحة على أرض سوريا، يطيب لي أن أتنفس بهدوء منتظم دون أن يَسُد الخبر منافذ رئتي ..يطيب لي ..بل أتمنى أن تحملني موسيقى نبتت فجأة وغزت كل ذرات كياننا وكل ثواني أيامنا فغيرت من أذواقنا الروتينية التي تعودناها سنيناً طويلة..هذه الموسيقى ، التي غناها القاشوش وأحمد القسيم وشادي أبازيد وغيرهم…تمنحني راحة نفسية وسكينة ملقحة بالأمل..تنسرب تحت جلدي وتحرس غفوتي..تخرج من نافذتي وتتجه نحو حمص ودرعا والدير ودوما..تحملني حيث عيون أطفال يقبعون في زاوية البيت المنهار يبحثون عن دفءٍ مفقود في معطف الجدة المقتولة إلى جانبهم..
لم تعد ذكريات الأمس البعيد وحقائبنا العتيقة هي مفتاح الحياة ووشيجتها الجذرية المولودة من ماضينا والموشومة فوق صدورنا تدخلنا المستقبل وتحيط قاماتنا بزنار الياسمين الدمشقي ، لأن قوافلاً لصور أخرى جديدة تزدحم على أبواب رؤوسنا وتتدفق بغزارة شلالات نياغارا..تجرفنا معها ونحن مستسلمين لعناق أمواجها ..فقد حولتنا منذ عام ونصف..إلى مهووسين ، جياع ، عطاشى..لاشك أنا بذرنا نطفة في رحم هذا الشلال…لكنا لم نحسن تكوين المولود المنتظر..فجاءت المعجزة وأيقظت عطش الأعوام العجاف..فنهضت جحافلنا المتنوعة تتوقع احتمالات القادم…فخرجت من شرانقها ..تدب فيها حياة غيرت سكونها..منها الزاحف ومنها الطائر ، منها الراكض واللاهث..منها الصابر والمثابر ، المناضل والمقاتل …الشهيد والعابر..الظافر والخاسر…المقامر والمغامر….كل حسب مكانه وفعله وقدرته…واقتداره…فأنتجنا ومازلنا نفرخ…كل تناقضات المرحلة وعجائب إبداعاتها…فاكتشفنا أنفسنا…ومافيها وفينا :
فينا من يدرك حجمه وحجم فعله..فينا من يفهم ذاته وموقعه..فينا من يرى الغد بمرآة سليمة دون ضباب، وفينا من يرى بمرآته ذات العدسة رقم خمسة أو رقم سبعة ومافوق ..ومادون…فينا من يقرأ عمره ويستوعب مابقي له من عطاء ، فينا من يعتقد أنه دائم وخالد لايزول مع أن فعله لايحول ولا يجول، فينا من يعلم أن وقته لم يحن بعد ، وفينا من حان وقته وفات أوانه ولم يرَ السيل يجرفه ..فينا من يعيش ميتاً ..ويظل معتقداً أنه من صُناع الحياة…فينا من تربى على أيدي الطغاة …لكنه فَرَّ من قبضتهم وعرف طريقه نحو الضوء وكيفية القضاء على عتمة العقل وعتمة الطريق..واستلهم دربه مِن خبرات من سبقوه ومَن امتشق سلاح معرفتهم من خلال متابعته وتحصيله لثقافات الكون، وفينا مَن نهض من غفلته على وقع سنابك الثورة ..فامتشق سلاحها حين رأى نورها يخطف الأبصار فخشي أن يمرَ موكبها ولا يكون من الراكبين…فلحق بالركب وامتشق رمحه يضرب ذات اليمين وذات الشمال..مرة يصيب ومرة يخيب …لكنه متابع دؤوب، وفينا من التحق بقطار الثورة وهو يُصَفِّر ماراً بكل محطات المدن..فطار كالريح معتلياً فرس البحث والاستشعار ..كي يحظى بمقام في زمان ومكان لم يكن له فيه لون ولا ثار من ورائه غبار، فينا من كانت معالم وجهه مطموسة لامن ورائه ولا من أمامه ..”لا من فمه ولا من كمه”…يروم السلام والدعة حتى لو أدمن العبودية..وأطنب في مدح الفرد المعبود،لكن اهتزاز الكون من حوله أيقظ فيه جنين الوصولية والانتهازية…فسارع ينقر على دف الحداء والأمواج الشعبية…بانتظار المغانم.. والجلوس على أرائك السادة…فينا من امتلك وضوح الكلمة وصراحة الفعل ..من ارتعشت فرائصه لدمعة طفل..من عاش الضنك وخاض غمار الألم ، من قاسى لوعة الفقد ولدغة الحرمان..فينا من عرف وخبر عن كثب ألعاب الأيديولوجيا وفن السياسة وكذب الساسة وزُناتها ..بنادقها وبندوقاتها ..لكنه صمم على أن يكون عفيف اللغة والممارسة…فتعب وأتعب الانتهازية والانتهازيين..ووجد نفسه في سوق النخاسين ..خاوي الوفاض…فلا دور له في سوق التجارة والدجالين…أدرك أن عالم السياسة عالم مكنون له أسنان ذئب..ولسان كلب..بحرها من زئبق…وماؤها ملح أُجاج…لاتعيش فيه الزهور ولا تنتعش الضمائر ولاتنفتح الصدور… تتحول الأقدام لحوافر ..في عالم طبعه حيواني وطعامه طرائد ومكائد، عتمته أكبر من نوره…حين تستأسد ضباعه وتتغير طباعه… لدى من اعتبر السياسة بضاعة والساسة صناعة وباعة…ومع هذا مازال يملك الغفران والايمان..بأن فوضى المَجرات الثورية تحمل في طميها وتربتها…كل حروف الأبجدية من ألفها إلى يائها..تحمل كل يافطات الحزن والفرح..تفيض بمكنونات خيبات الإنسان …رهينة الخطأ والخطيئة في عالم سلطة السلطان وصولجان لازمام له ولا أمان..ولا بد أن تنقشع كثافة الضباب ويميز الفرد والمجتمع الفرق بين رفقة الغباروالرمال، ورفقة الصخور والجبال.
ــ باريس 6/7/2012