خان الزيتون، حلب/ عزيز تبسي *
يمكن الوصول إلى تلة “خان الزيتون” من وهدتي حي الميدان أو الجابرية، أو من مرتفع تكية الشيخ أبو بكر الوفائي في المنطقة التي حملت اسمه وحافظت عليه، والتي كانت مع محيطها مقراً لسكن الولاة العثمانيين في أواسط القرن التاسع عشر، قبل أن ينقلوا سكنهم إلى قصور شيدت على الطراز الأوروبي في حي “الجميلية” الأحدث عمراناً، في غرب المدينة.
لم يعلم القاضي (محمد سعيد أفندي جابري زاده 1853-1915) حينما قرر تشيد قصره فوق تلة جبل الغزّلات، أنه ستوافيه المنية قبل أن يكمل بنائه ويسكنه، متنعماً بنسائم عليلة تهب عليه من أطرافه الأربعة المفتوحة على البساتين والكروم، ولا بالجولات الرائقة التي خطط للقيام بها في الحديقة الواسعة التي تحيط به. تركه مع الأراضي المحيطة به، ومضى محمولاً على محفة خشبية إلى مقبرة “الصالحين”.
سكن المهاجرون الأرمن القصر غير المكتمل. وصلوا في سنة 1915 أي في ذات سنة وفاته، وشيدوا فوق الأرض المخصصة لحديقته بيوتاً من الخشب والصفيح، مطلقين على القصر الذي انفردت كل عائلة بغرفة واحدة منه “خان الزيتون”، نسبة لبلدة “زيتون” في سهل كيليكية التي كانت من تابعية ولاية حلب العثمانية.
ارتفع في مواجهته على الطرف الآخر من الشارع المنخفض بناء “كيليكية” بطابقيه، الذي شيد بطريقة متقشفة وعملية في آن ليؤوي عائلات أرمنية نازحة أخرى، فرت كما سواها من المذابح والاضطهاد. اشترك النازحون في الحمامات والمطابخ والأروقة الفاصلة بين الغرف.. تحول هذا البناء، بعد بدايات نقل عمليات الكتائب المقاتلة إلى داخل المدينة، في أواسط تموز 2012، إلى مركز للإغاثة يوزع على النازحين من الأحياء الأخرى، والمتضررين من توقف أعمالهم، السلال الغذائية والمفارش والأغطية والأدوية والملابس.
غادرت العائلات الأرمنية تباعاً، هذا المكان منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ولم يتبق منها سوى أعداد قليلة عجزت عن تغيير سكنها، وآخرين شغلوا محال لحرف متنوعة.. حلت مكانهم في الحي عائلات من العرب والأكراد وجماعة الماردل النازحين من الأرياف، وقليل من الأشد فقراً من سكان المدينة. تقاسموا غرف القصر والبيوت المتلاصقة والمصائر.. كأنه إيذان بهجرة أخرى اكتملت عناصرها وتهيأت بيئتها. مهاجرون جدد، يحلون محل المهاجرين القدامى، في دورة عنيفة من الإفناء البشري، وتفكك البنى الاجتماعية، وانسداد آفاق تجددها.
هاجر قسم من الأرمن، هجرة أخرى إلى أرمينيا والولايات المتحدة وأوروبا.. وحقق العديد منهم انتقالات طبقية استلزمت تغيير مكان السكن، إلى أحياءٍ بيوتها واسعة ونظيفة. ووفد مهاجرون جدد من أحياء المدينة الأكثر فقراً ومن الأرياف التي تخبطت برومانسية الإصلاح الزراعي الحالمة، وبيروقراطيته الواقعية.. التي أوصلت أبناءه إلى حدود الفاقة.
****
في الصعود إلى قصر “خان الزيتون” الذي لم يعد يُرى منه سوى أعاليه المشوهة بقرميد أغلق نوافذه الواسعة، وحجبته أبنية متلاصقة، أغلقت واجهته وجوانبه، وامتدت إلى ساحة حديقته الافتراضية وفسحاته، وتدلت من نوافذه أطباق صدئة لالتقاط البث الفضائي، وألبسة مبللة ثقيلة بمائها، تظهرها كرايات منكسة، في هذا الصعود، يتوجب عبور الأزقة الضيقة المنحدرة بميول حادة، وكأنه ولوج في ممر بين غرف منزل، يكاد يصطدم الكتف بجدران البيوت المتقابلة وشبابيكها المواربة.. ويتوجب الحذر كذلك من الانزلاق، حين العبور من دون انتباه فوق رامات الزيوت المعدنية السوداء اللزجة، أو صعود درجات محطمة مقدمتها وزواياها، أو الدوس فوق بقايا الحرائق الليلية للنفايات الزلقة حيث توسَّل حراس المكان التدفئة في شتاء صقيعي، أو الاجتياز غير المتأني لأنابيب المياه التي تقطع الأزقة وتدخل المنازل من ثقوب جدارية فتحت بعجالة، والحذر كذلك من أسلاك الكهرباء التي اعتمد أصحابها على سرقة التيار الكهربائي من الأبراج التي نصبتها مؤسسة الكهرباء في زوايا الحي.
****
الفقر هو الفقر، لا لون يميزه عن لون الرخاء، أو الاكتفاء الذاتي المدعم بتخطيط أسروي ومهارة أزواج تعلموا تدبير شؤون بيوتهم. لكنه أسود في هذا المكان، بأثر من أكف ملوثة بهباب الفحم، ومن وجوه مسفوعه بزفرات دخان الطبخ والتدفئة، الآتي من حرائق أكياس النايلون ودواليب السيارات والشحاطات، ومكتمل بغياب النظافة والمواد المساعدة على تحقيقها من صابون حَسَن الرائحة، أو سائل معقم أو حتى ماء دافق، تمنع وصوله أو تقتره الاتفاقات بين المتحاربين.. وأسود بانغلاق رتاجات بوابات الآمال البيضاء أمام أبنائه.
لا يمكن سؤال من يلتقيهم المرء في الأزقة: كيف كنتم تعيشون قبل “هذه الأيام”، سؤال يحمل معنى يتسع للمناورة والتلاعب، أي ماذا كنتم تعملون قبلاً، وهل كان دخلكم يكفيكم؟ هل خططتم لمغادرة هذه الحظائر الآدمية؟.. ألم تفكروا في تحسين وضعكم ووضع أسركم؟ تتجاور أو تتلاصق 550 – 600 عائلة في هذا الحيز المديني المنتسب إلى روث الزمان، الذي صنعته الغطرسة والأنانية المفرطة لفئة من اللصوص وزبانيتهم.. يسمون بمجاز اجتماعي بورجوازية، أو بورجوازية منحدرة إلى وضاعة اللصوصية.
لا بد من الاستعانة بصديق من الحي لبث الطمأنينة في جموع خائفة، جافلة من خيالها وخيالات الدولة المنعكسة في مرايا هلع لا نهائي. يدخلان البيوت من أبوابها المنحنية كقامات ساكنيها، متلمسان الطريق بمصباح يدوي يقي من السقوط المدوي، إلى أسفل أدراج منتصبة كأعمدة محارس في قلاع قروسطية، وأروقة كدهاليز المتاهات في أساطير العالم السفلي، وغرف معتمة كمدافن الموتى.. كل اللوازم العائلية تصل من هذه الممرات، “بيدونات” المياه، أسطوانات الغاز المنزلي، “بيدونات” المازوت، أكوام النفايات المنتقاة بعناية فائقة لتستخرج لدائنها وقصاصات نسيجها ونثار ورقها وكرتونها وكل ما يقبل الحرق في أعماق أكياسها.. يران البيوت المهدمة من قذائف محلية الصنع، وآثار الحرائق التي تسببت بها. يصغيان لمرويات الأيام حين دخلت الكتائب المقاتلة الحي.. وبقيت فيه لثلاثة أيام.. يريان البيوت التي أحرقوها بذريعة أن أصحابها من الشبيحة، ليحرق الشبيحة، بعد استعادتهم السيطرة على الحي، بيوت من وصفوهم بالعمالة للكتائب المقاتلة.
لكن لما توثقين هذا الفتى بالحبل وتشدينه إلى ذراع معدنية خارجة من الجدار؟ لأنه مريض، أخشى عليه الخروج من البيت وضياعه في الطرق. استبقت الكلام لتبرير رائحة البول الخارجة من المكان، إنني أقمطه، ما زال يبول في ثيابه.. أراد إبلاغها أن لا أحد يتوه في طريق العودة إلى بيته، وكاد يقول أو بلده.. لكن الكلمات تعثرت في فمه، بعدما تذكر من مضوا ولم يعودوا.
يستأذنا الدخول إلى غرفة، فيأذن صاحبها بصوت آت من خلف الباب المتسخ بهباب دخان مزمن. يريان ابتسامة خجله وهو نصف عارٍ، يلف جسده بمنشفة الحمام.. النار لاهبة في الغرفة، تقويها قطع من دولاب سيارة، يعلو الصندوق المعدني الذي اطلق عليه صاحب الغرفة مدفأة، وعاء ممتلئ لنصفه بالماء. الغرفة معتمة في النهار، فكيف ستكون حالها في الليل؟ “نعيماً”، قالها ليكسر الصمت المقمط بالشفقة والشعور بأحوال ما بعد الظلم والحيف.. “ألله ينعم عليك”. ألا تخشى الآثار الصحية على أسرتك من الرائحة المنبعثة من حرق الدولاب؟ ماذا أفعل غير ذلك، نريد الدفء. من ثلاث سنوات لم تدخل نقطة مازوت بيتي. ألا تعمل؟ كنت أعمل حارساً ليلياً، لكن العمل توقف من زمن. كيف تؤمن مصاريف حياة أسرتك؟ لم يرد التوسع في الأسئلة، لكونها قد تؤدي للدخول في الخجل الاجتماعي الذي انفتحت بواباته ولن تغلق بيسر.. ستوصل الأحاديث إلى التسول، والتقاط النفايات وفرض العمل على الأولاد والزوجات، وقد تصل إلى السرقات الخفيفة، وتصريف البضائع المسروقة، والتساهل في بيع الأجساد…
يأخذان وجهة الزقاق في انحداره المجازف. رافقهما صوت امرأة حملت عبوتين فارغتين، لتملأهما بالماء من مسجد قريب: إن كنتما تسجلان احتياجاتنا، فنحن نحتاج أشياء كثيرة، أولها أن يعود أولادنا إلينا من جبهات القتال.
* كاتب من سوريا
السفير